معاني القرآن للفراء - الفراء  
{ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيۡـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (229)

وقوله : { إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ . . . }

وفي قراءة عبد الله " إلا أَنْ تخافوا " فقرأها حمزة على هذا المعنى " ألا أَنْ يُخافا " ولا يعجبني ذلك . وقرأها بعض أهل المدينة كما قرأها حمزة . وهي في قراءة أبّىً " إِلا أَنْ يَظنا أَلاَّ يُقيِما حُدُودَ الله " والخوف والظنّ متقاربان في كلام العرب . من ذلك أن الرجل يقول : قد خرج عبدك بغير إذنك ، فتقول أنت : قد ظننت ذاك ، وخفت ذاك ، والمعنى واحد . وقال الشاعر :

أتاني كلامَ عن نُصَيب بقوله *** وما خفتُ يا سلاَّم أنك عائبي

وقال الآخر :

إذا مت فادفنّي إلى جَنْب كَرْمة *** تُرَوِّى عظامي بعد موتى عروقها

[ ولا تدفنَنِّي في الفلاة فإنني *** أخاف إذا ما متُّ أن لا أذوقُها ]

والخوف في هذا الموضع كالظنّ . رفع " أذوقُها " كما رفعوا { وحَسِبُوا ألا تكون فِتنة } وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم " أُمِرتُ بالسواك حتى خفت لأَدْرَدَنَّ " كما تقول : ظَنَّ ليذهبنَّ .

وما ما قال حمزة فإنه إن كان أراد اعتبار قراءة عبد الله فلم يصبه - والله أعلم - لأن الخوف إنما وقع على ( أن ) وحدها إذ قال : ألا يخافوا أن لا ، وحمزة قد أوقع الخوف على الرجل والمرأة وعلى أن ؛ ألا ترى أن اسمهما في الخوف مرفوع بما لم يسمَّ فاعله . فلو أراد ألاَّ يُخاف على هذا ، أو يُخافا بذا ، أو من ذا ، فيكون على غير اعتبار قول عبد الله [ كان ] جائزا ؛ كما تقول للرجل : تُخاف لأنك خبيث ، وبأنك ، وعلى أنك . . . .

وقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُناحَ عَلَيْهِما } يقال كيف قال : فلا جناح عليهما ، وإنما الجناح - فيما يذهب إليه الناس - على الزوج لأنه أخَذ ما أعطَى ؟ ففي ذلك وجهان :

أن يراد الزوج دون المرأة ، وإن كانا قد ذُكِرا جميعا ؛ في سورة الرحمن { يَخْرُجُ مِنْهُما اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من المِلح لا من العذب . ومنه " نَسِيَا حُوتَهُما " وإنما الناسي صاحب موسى وحده . ومثله في الكلام أن تقول : عندي دابَّتان أركبهما وأستقى عليهما ، وإنما يُركب إحداهما ويُستقَى على الأخرى ؛ وقد يمكن أن يكونا جميعا تُركبان ويُستقى عليهما . وهذا من سعة العربية التي يحتجّ بسعتها . ومثله من كتاب الله { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جعل لكم الليل والنهار لِتسكنوا فِيهِ ولتبتغوا مِن فضله } فيستقيم في الكلام أن تقول : قد جعل الله لنا ليلا ونهارا نتعيَّش فيهما وننام فيهما . وإن شئت ذهبت بالنوم إلى الليل وبالتعيُّش إلى النهار .

والوجه الآخر أن يشتركا جميعا في ألاَّ يكون عليهما جُناح ؛ إذ كانت تعطِى ما قد نُفي عن الزوج فيه الإثم ، أُشركت فيه لأنها إذا أعطت ما يُطرح فيه المأثم احتاجت هي إلى مثل ذلك . ومثله قول الله تبارك وتعالى : { فمن تعجَّلَ في يومين فلا إِثم عليهِ ومن تأخَّر فلا إِثم عليهِ } وإنما موضع طرح الإثم في المتعجِّل ، فجعل للمتأخّر - وهو الذي لم يقصِّر - مثلُ ما جعل على المقصِّر . ومثله في الكلام قولك : إن تصدَّقت سِرّاً فحسن [ وإن تصدّقت جهرا فحسن ] .

وفي قوله { ومن تأخّر فلا إِثم عليهِ } وجه آخر ؛ وذلك أن يريد : لا يقولنّ هذا المتعجل للمتأخر : أنت مقصِّر ، ولا المتأخّر للمتعجل مثل ذلك ، فيكون قوله { فلا إِثم عليهِ } أي فلا يؤثِّمَنَّ أحدُهما صاحبَه .