فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيۡـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (229)

{ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } 229

( الطلاق مرتان ) أي عدد الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان ، فالمراد بالطلاق المذكور هو الرجعي بدليل ما تقدم في الآية أي الطلقة الأولى والثانية إذ لا رجعة بعد الثالثة ، وإنما قال سبحانه ( مرتان ) ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة لا طلقتان دفعة واحدة ، كذا قال جماعة من المفسرين .

ولما لم يكن بعد الطلقة الثانية إلا أحد أمرين إما إيقاع الثالثة التي بها تبين الزوجة ، أو الإمساك لها واستدامة نكاحها ، وعدم إيقاع الثالثة عليها ؛ قال سبحانه ( فإمساك ) أي بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين ( بمعروف ) أي بما هو معروف عند الناس من حسن العشرة وحقوق النكاح ( أو تسريح باحسان ) أي بايقاع طلقة ثالثة من دون ضرار لها .

وقيل المراد إمساك بمعروف أي برجعة بعد الطلقة الثانية أو تسريح باحسان أي بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدتها ، والأول أظهر .

قال أبو عمرو : أجمع العلماء على أن التسريح هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين وإياها عنى بقوله ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) .

وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل تقع ثلاث أو واحدة فقط فذهب إلى الأول الجمهور ، وذهب إلى الثاني من عداهم وهو الحق ، وقد قرره الشوكاني في مؤلفاته تقريرا بالغا ، وأفرده برسالة مستقلة وكذا الحافظ ابن القيم في اغاثة اللهفان وإعلام الموقعين وقررته في شرحي على بلوغ المرام .

( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ) الخطاب للازواج أي لا يحل لهم أن يأخذوا في مقابلة الطلاق مما دفعوه إلى نسائهم من المهر شيئا على وجه المضارة لهن ، وتنكير شئ للتحقير أي شيئا نزرا فضلا عن الكثير ، وخص ما دفعوه إليهن بعدم حل الأخذ منه مع كونه لا يحل للازواج أن يأخذوا من أموالهن التي يملكنها من غير المهر ، لكون ذلك هو الذي يتعلق به نفس الزوج ويتطلع لأخذه دون ما عداه مما هو في ملكها .

على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها في مقابلة البضع عند خروجه عن ملكه لا يحل له ، كان ما عداه ممنوعا منه بالأولى .

وقيل الخطاب للأئمة والحكام ليطابق قوله ( فإن خفتم ) فإن الخطاب فيه للأئمة والحكام ، وعلى هذا يكون إسناد الأخذ إليهم لكونهم الآمرين بذلك والأول أولى لقوله ( ما آتيتموهن ) فإن إسناده إلى غير الأزواج بعيدا جدا لأن إيتاء الأزواج لم يكن عن أمرهم ، وقيل : إن الثاني أولى لئلا يشوش النظم .

( إلا أن يخافا ) أي يعلم الزوجان من أنفسهما ، فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة ( أن لايقيما حدود الله ) أي تخاف المرأة أن تعصي الله في أمور زوجها ، ويخاف الزوج أنه إذا لم تطعه أن يعتدي عليها .

وقرأ حمزة يخافا بضم الياء أي إلا أن يعلم من حالهما ، والفاعل محذوف وهو الأئمة والولاة والحكام والقضاة ، واختاره أبو عبيد قال لقوله .

( فإن خفتم ) فجعل الخوف لغير الزوجين ، وقد احتج لذلك من جعل الخلع إلى السلطان وهو سعيد بن جبير والحسن ابن سيرين ، وقد ضعف النحاس اختيار أبي عبيد .

( فإن خفتم ) أي خشيتم وأشفقتم وقيل معناه ( أن لا يقيما حدود الله ) يعني ما أوجب الله على كل واحد منهما من طاعته فيما أمره به من حسن الصحبة والمعاشرة بالمعروف ، وقيل هو يرجع إلى المرأة وهو سوء خلقها واستخفافها بحق زوجها ( فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) أي لا جناح على الرجل في الأخذ ، ولا على المرأة في الإعطاء بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شئ من المال يرضى به الزوج فيطلقها لأجله ، وهذا هو الخلع ، وقد ذهب الجمهور إلى جواز ذلك للزوج وأنه يحل له الأخذ مع ذلك الخوف وهو الذي صرح به القرآن .

وحكى ابن المنذر عن بعض أهل العلم أنه لا يحل له ما أخذ ، ولا يجبر على رده ، وهذا في غاية السقوط .

و أخرج البخاري والنسائي وابن ماجة وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس : أن جميلة بنت عبد الله بن سلول امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكن لا أطيقه بغضا وأكره الكفر في الإسلام ، قال : " أتريدين عليه حديقته " قالت : نعم ، قال : " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة{[221]} " .

ولفظ ابن ماجة " فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد " ، وفي الباب أحاديث كثيرة{[222]} .

وقد ورد في ذم المختلعات أحاديث منها عن ثوبان عند أحمد وأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة{[223]} " ، وقال : " المختلعات هن المنافقات " .

ومنها عن ابن عباس عند ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة ، وأن رحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما{[224]} " .

وقد اختلف أهل العلم في عدة المختلعة والراجح أنها تعتد بحيضة لما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتد بحيضة .

ولما أخرجه الترمذي عن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمرها النبي صلى الله عليه وأله وسلم أن تعتد بحيضة ، قال الترمذي الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة ، وفي الباب أحاديث .

ولم يرد ما يعارض هذا من المرفوع بل ورد عن جماعة من الصحابة والتابعين أن عدة المختلعة كعدة الطلاق وبه قال الجمهور ، قال الترمذي : وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم ، واستدلوا على ذلك بأن المختلعة من جملة المطلقات فهي داخلة تحت عموم القرآن .

والحق ما ذكرناه لأن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخصص عموم القرآن .

وقد حكي عن بكر بن عبد الله المزني أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ) وهو قول خارج عن الإجماع ولا تنافي بين الآيتين .

وقد اختلف أهل العلم إذا طلب الزوج من المرأة زيادة على ما دفعه إليها من المهر وما يتبعه ورضيت بذلك المرأة هل يجوز أم لا ، وظاهر القرآن الجواز لعدم تقييده بمقدار معين ، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور ، وروي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين ، وقال طاوس وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحق : إنه لا يجوز لما ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

( تلك حدود الله فلا تعتدوها ) يعني هذه أوامر الله ونواهيه وهي ما تقدم من الاحكام فلا تجاوزوها بالمخالفة والرفض . ( و من يتعد حدود الله ) أي أحكام النكاح والفراق المذكورة هي حدود الله التي أمرتم بامتثالها فلا تعتدوها بالمخالفة لها فتستحقوا ما ذكره الله من التسجيل على فاعل ذلك بأنه ظالم ، ( فأولئك هم الظالمون ) أي لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وعقابه ، وفيه وفيما قبله الإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروع في ذهن السامع وذكر هذا الوعيد بعد النهى عن تعديلها للمبالغة في التهديد .


[221]:البخاري كتاب الطلاق باب 12.
[222]:ابن ماجه كتاب الطلاق باب 22.
[223]:المستدرك كتاب الطلاق 2/200. وهو حديث صحيح كما رواه اصحاب السند وقالوا: صحيح .أخرجه أبو داود(2226) والترمذي(1/223) والدارمي(2/162) وابن ماجه(2055) وابن الجارود(748) وابن حبان(1320) والبيهقي(7/316) وابن أبي شيبة(8/141/1-2) والطبري في "التفسير"(4843،4844) والحاكم(2/200) من طرق عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فذكره. وقال الترمذي: "حديث حسن". وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين". ووافقه الذهبي. قلت: وإنما هو على شرط مسلم وحده،فإن أبا أسماء الرحبي واسمه عمرو بن مرثد إنما أخرج له البخاري في "الأدب المفرد". وللحديث طريق أخرى،يرويه ليث عن أبي إدريس عن ثوبان به. أخرجه الطبري(4840). وليث هو ابن أبي سليم،وهو ضعيف.
[224]:ضعيف الجامع الصغير 6232.