{ الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
قال الإِمام ابن كثير : هذه الآية رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإِسلام : من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة ، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات ، قصرهم الله - تعالى - على ثلاث طلقات ، وأباح الرجعة في المرة والثنتين ، وأبانها بالكلية في الثالثة فقال : الطلاق مرتان . . . الآية .
وروى ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا قال لامرأته : لا أطلقك أبداً ولا آويك أبداً . قالت : وكيف ذلك ؟ قال : أطلق حتى إذا دنا أجلك - أي قاربت عدتك أن تنتهي - راجعتك - فأتت المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فأنزل الله - تعالى - : { الطلاق مَرَّتَانِ } - الآية .
والطلاق - كما يقول القرطبي - هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة .
وآل في قوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } للعهد الذكري .
أي : الطلاق الرجعي المشار إليه في قوله - تعالى - : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } مرتان ، وأمر الملطق بعد إحدى هاتين الطلقتين يدور بين حالتين إما إمساك بمعروف بمعنى أن يراجعها على نية الإِبقاء على العلاقة الزوجية ، والمعاملة الحسنة وإما تسريح بإحسان بمعنى أن يتركها حتى تنتهي عدتها ، ويطلق سراحها بدون ظلم أو إساءة إليها ، كما قال - تعالى - : { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } قال القرطبي : والتسريح : إرسال الشيء ، ومنه تسريح الشعر ليخلص البعض من البعض ، وسرح الماشية أرسلها . . "
وعلى هذا التفسير يكون المراد بالطلاق في الآية الطلاق الرجعي وبالمرتين حقيقة التثنية ، ويكون وقت الإِمساك أو التسريح هو ما بعد الطلقة الأولى أو الثانية بصفة خاصة ، وفي كل الأوقات بصفة عامة . وعلى هذا التفسير سار كثير من العلماء .
ويرى بعضهم أن المراد بالطلاق في الطلاق الشرعي ، وبالمرتين التكرار لا العدد ، وأن المراد من التسريح بالإِحسان هو الطلقة الثالثة ، أي بعد الطلقتين الأوليين يتروى في الأمر فيمسك بالمعروف أو يطلق الطلقة الثالثة .
وقد ذكر هذا الرأي صاحب الكشاف فقال :
{ الطلاق } بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم ، أي التطليق الشرعي تطليقه بعد تطليقه على التفريق دون الجمع والإِرسال دفعة واحدة ، ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير ، كقوله " ثم ارجع البصر كرتين " أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين ، ونحو ذلك من التثاني التي يراد بها التكرير كقولهم : لببك وسعديك . . وقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم إياه . . وروى أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت قول الله - تعالى - : { الطلاق مَرَّتَانِ } فأين الثالثة ، فقال صلى الله عليه وسلم " التسريح بإحسان " .
والفاء في قوله - تعالى - : { فَإِمْسَاكٌ . . . } للتفريع ، وإمساك خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : فالشأن أو فالأمر إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
قال الفخر الرازي : والحكمة في إثبات حق الرجعة : أن الإِنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أولا ؟ فإذا فارقه فعتد ذلك يظهر ، فلو جعل الله - تعالى - الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإِنسان بتقدير أن يظهر المحبة بعد المفارقة ، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة ، فلا جرم أثبت - سبحانه - حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ، وعند ذلك يكون قد جرب الإِنسان نفسه في تلك المفارقة مرتين وعرف حال قلبه في ذلك الباب . فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف ، وإن كان الأصلح له تسريحها سرحها على أحسن الوجوه ، وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعباده " .
هذا ، ويرى بعض العلماء كابن تيمية وابن القيم أن الرجل إذا أوقع الطلاق دفعة واحدة بأن قال لزوجته أنت طالق ثلاث مرات ، فطلاقه لا يكون إلا طلقة واحدة ، لأن اقتران الطلاق بكلمة ثلاثا لا يجعله ثلاث مرات بل هو مرة واحدة كمن يقول : أحلف بالله ثلاثاً فهو يمين واحدة .
ويرى الأئمة الأربعة أن طلاق هذا الرجل في مثل هذه الصورة يقع ثلاثاً ، لأنهم يرون أن الطلاق المقترن بالعدد لفظاً أو إشارة يكون ثلاثاً أو اثنين على حسب ما اقترن به . ولأن عمر - رضي الله عنه - أفتى بذلك . فقد أخرج مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم عن ابن عباس قال : " كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر ، وسنتين من خلافة عمر واحدة ، فقال عمر : إن الناس قد استجعلوا في أمر لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم " .
وهذه المسألة مبسوطة بأدلتها في كتب الفقه وبعض كتب التفسير .
ثم قال - تعالى - : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت } .
قال الراغب : الخوف : توقع مكروه عن إمارة مظنونة أو معلومة ، كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة . ويضاد الخوف الأمن . . "
والجناح : الإِثم من جنح بمعنى مال عن القصد - وسمى الآثم به للميل فيه من الحق إلى الباطل - . يقال جنحت السفينة أي مالت إلى أحد جانبيها . والافتداء : تخليص النفس بمال يبذل لتخليصها ودفع الأذى عنها . وأصله من الفدى والفداء بمعى حفظ الإِنسان نفسه عن الشدة بما يبذله من أجل ذلك .
والمعنى : ولا يجوز لكم أيها المطلقون أن تأخذوا من زوجاتكم في مقبالة الطلاق شيئاً مما أعطيتموهن من صدق أو من غيره من أموال ، لأن هذا الأخذ يكون من باب الظلم الذي نهى الله عنه ، وليس من باب العدل الذي أمر الله به .
ثم استثنى - سبحانه - صورة يجوز فيها الأخذ فقال : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ } إلخ أي : لا يجوز لكم أن تأخذوا في حالة من الأحوال إلا في حالة أن يخاف الزوجان كلاهما أو أحدهما ألا يقيما حدود الله ففي هذه الحالة يجوز الأخذ وحدود الله هي ما أوجبه - سبحانه للرجل على زوجته ولها عليه .
ثم خاطب - سبحانه - الحكام وجماعة المؤمنين المتوسطين للإِصلاح بين الزوجين فقال : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا } أي الزوجان { حُدُودَ الله } التي حدها لهم وأمرهم باتباعها في حياتهم الزوجية " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " أي : فلا إثم على الزوج في أخذ ما أعطته له الزوجة من مال مقابل انفصالها عنه ، ولا إثم عليها كذلك في هذا الإعطاء ، لأنهما ما داما قد وصلا إلى هذه الحالة من التنافر ، وما دامت الزوجة قد أصبحت تفضل أن تعطيه من المال ما تفدى به نفسها من البقاء في عصمته ، ما داما قد أصبحا كذلك . فوقوع الفراق بينهما أولى وأجدى { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لمن الخطاب في قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ } إن قلت : إنه للأزواج لم يطابقه قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } وإن قلت إنه للأئمة والحكام فهؤلاء ليسوا بآخذين منهم ولا بمؤتيهن ؟ قلت : يجوز الأمران جميعاً : أن يكون أول الخطاب للأزواج وآخره للأئمة والحكام ، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره . ويجوز الخطاب كله للائمة والحكام ، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإِيتاء عند الترافع إليهم فكنهم الآخذون والمؤتون " .
والمراد بقوله : { مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ } أي من المهور وتخصيصها بالذكر وإن شاركها في الحكم سائر أموالهن إما لرعاية العادة وإما للتنبيه على أنه إذا لم يحل لهم أن يأخذوا مما أعطوهن في مقابلة البضع عند خروجه عن ملكهم فلأن لا يحل لهم أن يأخذوا مما لا تعلق له بالبضع أولى وأحرى .
وقوله : { شَيْئاً } مفعول به لتأخذوا . التنوين للتقليل أي : لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ولو كان المأخوذ شيئاً غاية في القلة ، لأن هذا الأخذ يجا في الإِحسان الذي أمرتم به . وقريب من هذه الآية في النهي عن الأخذ قوله - تعالى - :
{ وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } وأن والفعل في قوله : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ } في موضع نصب على الحال أي إلأا خائفين .
وقوله : { أَلاَّ يُقِيمَا } في موضع نصب على المفعول به ليخافا والتقدير إلا أن يخافا ترك حدود الله .
وهذه الآية قد اعتبرها العلماء أصلا في جواز الخلع .
قال ابن كثير : وقد ذكر ابن جرير : أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس ، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس : " أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن زوجي ثابت بن قيس - ما أعيب عليه في خلق ولا دين ، ولكن أكره الكفر في الإِسلام - أي أكره عدم الوفاء بحقه لبغضي له- . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أتردين عليه حديقته ؟ - وهي المهر الذي أمهرها - قالت : نعم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت : اقبل الحديقة وطلقها تطليقه " .
قالوا : ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بطريق الخلع فكان أول خلع في الإِسلام .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } .
أي : تلك الأحكام العظيمة الحكيمة المتقدمة التي بينتها لكم في شأن الطلاق والرجعة والخلع وغير ذلك حدود الله التي حدها ، فلا يجز لكم أن تخالفوها ، ومن يتعد هذه الحدود فأولئك هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وعقابه .
وكنت الإِشارة للبعيد { تِلْكَ } لبيان سمو قدر هذه الأحكام ، وعظم منزلتها ، وجلال ما فيها من مصالح واضحة لأصحاب العقول السليمة .
وسميت هذه الأحكام حدوداً للإِشارة إلى أنها فواصل بين الحق والباطل ، والظلم والعدل والمنفعة والمضرة . إذ الحد هو الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر . يقال : حددت كذا أي جعلت حداً يميزه . وحد الدار ما تتميز به عن غيرها .
وفي إضافة هذه الحدود إليه - سبحانه - إشعار بأن مخالفتها إنما هي مخالفة له - سبحانه - وأن هذه الحدود لا يتطرق إليها الريب لأنها صادرة من العليم الخبير الذي أحسن كل شيء خلقه .
والفاء في قوله : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } للتفريع أي : إذا كانت هذه الأحكام حدود الله فلا يصح لكم أن تتجاوزوها لأن تجاوزها يؤدي إلى سوء العقبى .
وعبر في قوله : { فأولئك هُمُ الظالمون } بفاء السببية وباسم الإِشارة وبضمير الفصل وبالجملة الاسمية لتأكيد معنى السببية وللإِشارة إلى أن الظلم شأن من شئونهم وصفة يتميزون بها عن غيرهم .
وقد جاء - سبحانه - بكل هذه المؤكدات في تلك الجملة الكريمة لكبح جماح غرور الإِنسان ، وتحذيره من الانقياد لهواه وأوهامه ، فكثيراً ما يتوهم بعض الناس أن أحكام الله ليست ملائمة لمتقضى الزمان الذي يعيشون فيه ، ويحاولون إخضاع شرع الله - تعالى - لمصالحهم وشهواتهم ، أو يتركون ما شرعه الله بتلك الحجة الواهية الساقطة . وأنت ترى هنا أن القرآن قال : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا . . . } بينما قال هناك في ختام آية الصوم { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } وذلك لأن الكلام هنا في شأن الأسرة وما يسودها أحياناً من خلافات ، واصطدامات ، واضطرابات . . والخشية هنا إنما هي من تعدى هذه الحدود التي حدها الله في أي مرة من مرات هذا الخلاف . . فجاء التحذير من التعدي لا من المقاربة ، بينما هناك كان الحديث عن محظورات مشتهاة مستلذة تريدها النفس لترضى شهوتي البطن والفرج ، فجاء التحذير من مجرد الاقتراب من هذه الحدود التي حدها الله إتقاء لضعف الإرادة أمام جاذبيتها .
فسبحان من هذا كلامه { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً }