غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيۡـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (229)

228

الحكم الثالث للطلاق : هو الطلاق الذي يثبت فيه الرجعة . وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها ، ولو طلقها ألف مرة كانت القدرة على المراجعة ثابتة له . فجاءت امرأة إلى عائشة فشكت أن زوجها يطلقها ويراجعها يضارها بذلك ، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل { الطلاق مرتان } فعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها . والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان ولا رجعة بعد الثلاث . وهذا تفسير من جوز الجمع بين الطلقات الثلاث وهو مذهب الشافعي وهو أليق بنظم الكلام لأنه تعالى بيّن في الآية الأولى أن حق الرجعة ثابت للزوج ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائماً أو إلى غاية معينة فكان ذلك كالمجمل أو العام فيفتقر إلى مبين أو مخصص ، فذكر عقيبه أن الطلاق المعهود السابق الذي يثبت فيه للزوج حق الرجعة هو أن يوجد طلقتان فقط ، فإذا وصلت التطليقة إلى هذه الغاية بطل حق الرجعة . والطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم . وقيل : إن هذا كلام مبتدأ والمعنى : أن التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله تعالى { ثم ارجع البصر كرتين } [ الملك : 4 ] أي كرة بعد كرة ، وقولهم " لبيك وسعديك " . وهذا التفسير قول من قال : الجمع بين الثلاث حرام . وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار أن هذا هو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهم ، ويؤكده العدول عن لفظ الأمر وهو " طلقوا مرتين أو دفعتين " إلى لفظ الخبر كما مر في قوله { والمطلقات يتربصن } ثم من هؤلاء من قال : لو طلقها ثنتين أو ثلاثاً لا يقع إلا واحدة وهذا هو الأقيس ، واختاره كثير من علماء أهل البيت لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع سعي في إدخال تلك المفسدة في الوجود ومنهم من قال : - وهو اختيار أبي حنيفة - إنه وإن كان محرماً إلا أنه يقع ويكون بدعة ، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه . وهذا منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد ، ومما يؤيد مذهب الشافعي حديث العجلاني الذي لاعن امرأته فطلقها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ، ومما يؤكد مذهب أبي حنيفة حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً فتطلقها لكل قرء تطليقة . وأما قول { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } أي أمركم بعد الرجعة أو بعد معرفة كيفية التطليق أحد هذين . فالتسريح الإرسال والإطلاق والإمساك نقيضه . ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة بل على قصد الإصلاح ومعنى التسريح بإحسان قيل : هو أن يوقع عليها الطلقة الثالثة . روي أنه لما نزل قوله تعالى { الطلاق مرتان } قيل له صلى الله عليه وسلم : فأين الثالثة ؟ فقال : هو قوله { أو تسريح بإحسان } وقيل : هو أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة . ويروى عن الضحاك والسدي وهو أقرب لولا الخبر الذي رويناه لأن الفاء في قوله { فإن طلقها } تقتضي وقوع هذه الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح . فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة لكان قوله { فإن طلقها } طلقة رابعة وإنه غير جائز . وأيضاً لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأقسام ، لأنه بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو قوله { فإمساك بمعروف } أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي عدتها وتحصل البينونة وهو قوله { أو تسريح بإحسان } أو يطلقها وذلك قوله { فإن طلقها } فلو جعلنا التسريح طلاقاً لزم إهمال أحد الأقسام وتكرير بعضها . وأما الحكمة في إثبات حق الرجعة فهي أن النعم مجهولة إذا فقدت عرفت ، فلو كانت الطلقة الواحدة مانعة عن الرجعة فربما ظهرت المحبة بعد المفارقة وعظمت المشقة . ثم إن إكمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة فلهذا ثبت حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ليجرب الإنسان أحوال قلبه ، فإن كان الأصلح له إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف ، وإن كان الأصلح تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهو أن يؤدي حقوقها المالية ، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها ، وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رأفته بعبده .

الحكم الرابع من أحكام الطلاق : بيان الخلع وذلك قوله { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } وسبب ارتباط هذا بما قبله أنه تعالى لما أمر بالتسريح مقروناً بإحسان بيَّن عقيبه أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئاً مما أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها ، لأنه ملك بضعها واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها إلا إذا فارقها على عوض ويدخل فيه النهي من أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء كما قال في سورة النساء { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } [ النساء : 19 ] والخطاب في قوله { ولا يحل لكم } للأزواج وفي قوله { فإن خفتم } للأئمة والحكام . ويجوز أن يكون الخطاب الأول أيضاً للأئمة لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون روي أن الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي . " وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حبيبة بنت سهل الأنصارية ، كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه أشد البغض وكان يحبها أشد الحب . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : فرق بيني وبينه ، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضاً إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً . فقال ثابت : مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها ، فقال لها : " ما تقولين ؟ " قالت : نعم وأزيده . فقال صلى الله عليه وسلم : " لا ، حديقته فقط " . ثم قال لثابت : " خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها " ففعل ، وكان ذلك أول خلع في الإسلام . ومعنى قوله { إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية واختلفوا في مقدار ما يجوز به الخلع . فعن الشعبي والزهري والحسن وعطاء وطاوس أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهو قول علي كرم الله وجهه لقوله تعالى { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } ثم قال : { فلا جناح عليهما } أي فلا جناح على الرجل فيما أخذ ، ولا عليها فيما أعطت . ومعنى { فيما افتدت به } فيما افتدت نفسها واختلعت به فوجب أن يكون هذا راجعاً إلى ما آتاها ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لا حديقته فقط . حين قالت جميلة : نعم وأزيده . ولأن ذلك إجحاف بجانب المرأة وضرار بالمرأة بعدما استبيح من بضعها ولهذا قال سعيد بن المسيب : لا يأخذ إلا دون ما أعطاها حتى يكون الفضل له . وأما سائر الفقهاء فإنهم قالوا : الخلع عقد معاوضة فينبغي أن لا يتقدر بمقدار معين . فكما أن للمرأة عند النكاح أن لا ترضى إلا بالصداق الكثير ، فكذلك للزوج أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الكثير لاسيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج حيث أظهرت بغضه وكراهته ، ويتأكد هذا بما روي أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعاها فقال : كيف وجدت مبيتك ؟ قالت : ما بت منذ كنت عنده أقر ليعين منهن . فقال عمر لزوجها : اخلعها ولو بقرطها أي حتى قرطها . ولهذا قال قتادة يعني بمالها كله . وقيل : هو من قولهم " خذه ولو بقرطي مارية " وذلك فيهما درّتان قيمتهما أربعون ألف دينار . ويصح الخلع في حالتي الشقاق والوفاق عند أكثر المجتهدين لقوله تعالى { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن يحصل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت ، كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى .

وذهب الزهري والنخعي وداود إلى أنه لا يباح الخلع إلا عند الغضب والخوف من أن لا يقيما حدود الله كما في الآية ، وإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد . والجمهور على أنه لا كراهة في الخلع إن جرى في حال الشقاق ، أو كانت تكره صحبته لسوء خلقه أو دينه كما في الآية ، أو وقع وتحرجت عن الإخلال ببعض حقوقه لما بها من الكراهة فافتدت ليطلقها ، أو ضربها الزوج تأديباً فافتدت ، أو منعها حقها من النفقة وغيرها فافتدت لتتخلص منه وإن كان الزوج يكره صحبتها فأساء العشرة ومنعها بعض حقها حتى ضجرت وافتدت ، فالخلع مكروه وإن كان نافذاً والزوج مأثوم بما فعل . فالخلع المباح هو أن تكون المرأة بحيث تخاف الفتنة على نفسها والزوج يخاف أناه إذا لم تطعه اعتدى عليها . ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن كما سبق في قوله { فمن خاف من موصٍ جنفاً } [ البقرة : 182 ] ومن قرأ { إلا أن يخافا } على البناء للمفعول جعل { ألا يقيما } بدلاً من ألف الضمير بدل الاشتمال مثل " خيف زيد تركه إقامة حدود الله " ثم الفرقة الحاصلة على العوض إن كان بلفظ الطلاق فهو طلاق ، وإن لم يجر إلا لفظ الخلع فللشافعي فيه قولان : الجديد أنه طلاق ينتقص به العدد وإذا خلعها ثلاث مرات لم ينكحها إلا بمحلل ، ويروى هذا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال أبو حنيفة ومالك واختاره المزني ووجه بأنها فرقة لا يملكها غير الزوج فيكون طلاقاً كما لو قال : أنت طالق على كذا . ولأنه لو كان فسخاً لما صح بالزيادة على المهر المسمى كالإقالة في البيع . وإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يرد عليها المهر كالإقالة فإن الثمن يجب رده وإن لم يذكراه . والقديم أنه فسخ لا ينتقص به العدد ويجوز تحديد النكاح بعد الخلع من غير حصر . ويروى هذا عن ابن عمر وابن عباس قالوا : لأنه لو كان طلاقاً وقد قال عقيب ذلك { فإن طلقها فلا تحل له من بعد } لكان الطلاق أربعاً ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت في مخالعته امرأته ولم يستكشف عن الحال مع أن الطلاق في زمان الحيض وفي الطهر الذي حصل الجماع فيه حرام ، ولما روى عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة ولو كانت مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد { تلك } أي المذكورات من أحكام الطلاق { حدود الله فلا تعتدوها } فلا تتجاوزوا عنها { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } والظالم اسم ذم وتحقير . فوقوع هذا الاسم عليه يكون جارياً مجرى الوعيد . وكيف لا والظالم ملعون { ألا لعنة الله على الظالمين } ثم إنه ظلم من الإنسان على نفسه حيث أقدم على المعصية ، وظلم على الغير أيضاً بتقدير أن لا تتم المرأة عدته أو كتمت شيئاً مما خلق في رحمها ، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان ، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئاً لا بسبب نشوز من جهة المرأة .

/خ232