التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} (3)

بسم الله الرحمن الرحيم

{ حم ( 1 ) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ( 3 ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( 4 ) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 5 ) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 6 ) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ( 7 ) لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ( 8 ) } [ 1 – 8 ] .

ابتدأت السورة بحرفي ( الحاء والميم ) للاسترعاء والتنبيه على ما رجحناه في أمثالهما . وأعقبهما قسم بالكتاب المبين ثم تقريرات ربانية كجواب للقسم أو ما بمثابة ذلك :

1- بأن الله قد أنزل الكتاب في ليلة عظيمة الشأن جرت عادته على قضاء كل أمر خطير محكم من أوامره فيها .

2- وبأنه قد أراد بإنزال الكتاب إنذار الناس وتنبيههم .

3- وبأنه قد أرسل رسوله بمهمة الرسالة العظمى رحمة بهم ، فهو السميع العليم رب السماوات والأرض وما بينهما لا إله إلا الله هو يحيي ويميت رب السامعين ورب آبائهم الأولين .

4- وبأن هذه هي الحقيقة الناصعة إذا كان السامعون يريدون المعرفة واليقين .

والآيات في صدد توكيد نسبة القرآن إلى الله ، ثم في صدد توكيد صدق رسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكونها رحمة للناس ، وهكذا جاء مطلع السورة متسقا في أسلوبه وهدفه مع مطالع شقيقاتها الحواميم .

تعليق على آية

{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ }

وما بعدها وما روي عن ليلة

نصف شعبان

ولقد اختلفت الأقوال في الليلة المذكورة ، فهناك من قال إنها ليلة القدر{[1873]} واستند في ذلك إلى سورة القدر التي ذكرت أن القرآن أنزل في ليلة القدر ، وإلى آية سورة البقرة هذه : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [ 185 ] ثم إلى الأحاديث المروية في صدد كون ليلة القدر هي في العشر الأخيرة من رمضان والتي أوردناها في سياق تفسير سورة القدر ، وهناك من قال : إنها ليلة النصف من شعبان استئناسا من بعض أحاديث نبوية منها حديث جاء فيه : ( ينزل الله جل ثناؤه ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لكل نفس إلا إنسانا في قلبه شحناء أو مشركا بالله ) ومنها حديث ثان جاء فيه : ( تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له ولقد خرج اسمه في الموتى ){[1874]} . ومنها حديث عن ابن عباس جاء فيه : ( يقضي الله الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها الموكلين بها ) ويعني بذلك الملائكة على ما هو المتبادر{[1875]} . ومنها حديث عن الحسن البصري جاء فيه : أن أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى مثلها في السنة المقبلة تفصل في هذه الليلة ، أي : ليلة نصف شعبان ){[1876]} . وبعض الذين قالوا إنها ليلة القدر من رمضان رووا أن هذه الليلة هي الليلة التي تفصل فيها الأمور الهامة من سنة إلى سنة من أرزاق وآجال ومصائب{[1877]} ، وبذلك وفقوا بين القولين .

وأكثر الأقوال في جانب القول إنها ليلة القدر في رمضان وهو الأصوب والأولى الذي تلهمه الآية نفسها بمقارنتها بآيتي البقرة وسورة القدر . ويلحظ أن الأحاديث المساقة عن ليلة نصف شعبان ليس فيها إشارة صريحة إلى نزول القرآن فيها ، وهذا ما جعلنا نقول إنهم استأنسوا بها استئناسا ، هذا مع التنبيه على أنها لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة . ولقد أنكر ابن كثير قول من قال : إنها ليلة نصف شعبان وقال : إن الذين يقولون ذلك قد أبعدوا النجعة ، وإن نص القرآن يؤيد أنها ليلة القدر في رمضان ، وأن الحديث النبوي عن ليلة شعبان مرسل ومثله لا يعارض به نص ثابت{[1878]} .

ولقد أعاد بعض المفسرين{[1879]} القول في مناسبة هذه الآية بأن الضمير في { أنزلناه } عائد إلى جميع القرآن حيث أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ، ثم صار ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم منجما كما روي عن ابن عباس . وقد أورد الطبري في سياق هذه الآية رواية نزول صحف إبراهيم في أول رمضان والتوراة في السادس منه ، والزبور في السادس عشر ، والإنجيل في الثامن عشر ، والفرقان في الرابع والعشرين . وقد علقنا على هذا بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة القدر ، فلا نرى الحاجة إلى إعادة أو زيادة .

والوصف الذي وصفت به هذه الليلة التي هي على الأرجح ليلة القدر في أواخر شهر رمضان في الآيات [ 3 – 4 ] من السورة قد يؤيد ما قلناه في سياق تفسير سورة القدر من أن تسمية ( ليلة القدر ) هي تسمية علمية ، وأنه كان لهذا الليلة خطورة دينية ما في أذهان السامعين .

هذا ، ونقول – تعليقا على ما روي من تقدير الآجال والأرزاق وقضاء الأقضية من سنة إلى سنة في ليلة النصف من شعبان أو في ليلة القدر ما اعتاده المسلمون من الاحتفال بليلة النصف شعبان وقراءة أدعية خاصة فيها – : إن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة الإسناد ، ولا تظهر حكمة الله فيها ، ويجب التحفظ إزاءها ، وإن الاحتفال بليلة النصف من شعبان ليس له أصل ثابت من سنة نبوية ولا صحابية .

وقد يرد أن جملة { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( 4 ) } قد تقوي صحة الأحاديث الواردة . ولسنا نرى ذلك ، فالأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تذكر ليلة النصف من شعبان . وهذه الجملة تشير إلى الليلة التي أنزل فيها القرآن وهي ليلة القدر بنص القرآن . وقد يكون أريد بالجملة الإخبار بأن حكمة الله شاءت أن يقضي فيها الأمور الهامة التي منها إنزال الوحي والقرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء من قبله . ولعل عبارة { مُنذِرِينَ ( 3 ) } في الآية السابقة لها وعبارة { مُرْسِلِينَ ( 5 ) } في الآية التالية لها مما يدعم هذا التوجيه ويبعد على ما هو المتبادر موضوع تقرير الآجال والأرزاق والأحداث السنوية ، والله أعلم .


[1873]:انظر تفسير سورة القدر وتفسير الآية التي في صددها في تفسير ابن كثير.
[1874]:انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي.
[1875]:انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي.
[1876]:انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري و البغوي.
[1877]:انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري و البغوي.
[1878]:انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن.
[1879]:انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن.