السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} (3)

{ إنا أنزلناه } فيكون في ذلك تقدير قسمين على شيء واحد ويجوز أن يكون { إنا أنزلناه } جواب القسم وأن يكون اعتراضاً والجواب قوله تعالى : { إنا كنا منذرين } واختاره ابن عطية ، وقيل : { إنا كنا } مستأنف و{ فيها يفرق } يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون صفة ليلة وما بينهما اعتراض .

تنبيه : يجوز أن يكون المراد بالكتاب هنا الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب } ( الحديد : 25 )

ويجوز أن يكون المراد به اللوح المحفوظ قال الله تعالى : { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } ( الرعد : 39 ) وقال تعالى : { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } ( الزخرف : 4 ) ويجوز أن يكون المراد به القرآن واقتصر على ذلك البيضاوي وتبعه الجلال المحلي ، وعلى هذا فقد أقسم بالقرآن أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة ، وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم الرجل له إليه حاجة : أتشفع بك إليك وأقسم بحقك عليك وجاء في الحديث : «أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك ، وبك منك لا أحصي ثناء عليك » . والمبين : هو المشتمل على بيان ما بالناس من حاجة إليه في دينهم ودنياهم فوصفه بكونه مبيناً وإن كانت حقيقة الإبانة لله تعالى لأن الإبانة حصلت به كقوله تعالى : { أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } ( الروم : 35 ) فوصفه بالتكلم إذ كان غاية في الإبانة فكأنه ذو لسان ينطق مبالغة في وصفه .

واختلف في قوله سبحانه وتعالى : { في ليلة مباركة } فقال قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين : هي ليلة القدر : وقال عكرمة وطائفة : إنها ليلة البراءة وهي ليلة النصف من شعبان ، واحتج الأولون بوجوه ؛ الأول : قوله تعالى { إنا أنزلنا في ليلة القدر } ( القدر : 1 ) فقوله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } يجب أن تكون هي تلك الليلة المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض ، ثانيها : قوله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } ( البقرة : 185 ) فقوله تعالى ههنا { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } يجب أن تكون هذه الليلة المباركة في رمضان فثبت أنها ليلة القدر ، ثالثها : قوله تعالى في صفة ليلة القدر : { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر } ( القدر : 4 ) .