الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} (28)

قوله : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } : أي : احبِسْها وثَبِّتْها ، قال أبو ذؤيب :

فصبَرْتُ عارفةً لذلك حُرَّة *** تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّعُ

وقوله : " بالغَداة " تقدَّم الكلامُ عليها في الأنعام .

قوله : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ } فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ مفعولَه محذوفٌ ، تقديرُه : ولا تَعْدُ عيناك النظرَ . والثاني : أنه ضُمِّنَ معنى ما يتعدَّى ب " عَنْ " . قال الزمخشري : " وإنما عُدِّيَ ب " عَنْ " لتضمين " عَدا " معنى نبا وعلا في قولِك : نَبَتْ عنه عيْنُه ، وعلَتْ عنه عَيْنُه ، إذا اقتحَمَتْه ولم تَعْلَقْ به . فإن قلت : أيُّ غرضٍ في هذا التضمين ؟ وهَلاَّ قيل : ولا تَعْدُهم عيناك ، أو : ولا تَعْلُ عيناك عنهم ؟ قلت : الغرضُ فيه إعطاءُ مجموعِ معنيين ، وذلك أقوى من إعطاءِ معنى فَذّ . ألا ترى كيف رَجَعَ المعنى إلى قولك : ولا تَقْتَحِمْهُمْ عيناك متجاوزتَيْنِ إلى غيرهم . ونحوه { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] ، أي : ولا تَضُمُّوها إليها آكلين لها " .

ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ مذهبَ البصريين أن التضمينَ لا ينقاس ، وإنما يُصار إليه عند الضرورة . فإذا أمكن الخروجُ عنه فلا يُصار إليه .

وقرأ الحسن " ولا تُعْدِ عَيْنَيْكَ " مِنْ أَعْدى رباعياً . وقرأ هو وعيسى والأعمش " ولا تُعَدِّ " بالتشديد من عَدَّى يُعَدَّي مُضَعَّفاً ، عدَّاه في الأولى بالهمزةِ وفي الثانيةِ بالتثقيلِ ، كقولِ النابغة :

فَعَدَّ عَمَّا تَرَى إذ لا ارْتِجاعَ له *** وانْمِ القُتُوْدَ على عَيْرانَةٍ أُجُدِ

كذا قال الزمخشري وأبو الفضلِ . ورَدَّ عليهما الشيخ : بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزةِ أو التضعيفِ لَتَعَدَّى لاثنين ، لأنه قبل ذلك متعدٍّ لواحدٍ بنفسه . وقد أقرَّ الزمخشري بذلك حيث قال : " يقال : عَدَاه إذا جاوزه ، وإنما عُدِّي ب عن لتضمُّنِه معنى علا ونبا ، فحينئذٍ يكون أَفْعَل وفَعَّلَ مِمَّا وافقا المجردَ " وهو اعتراضٌ حسنٌ .

قوله : " تُريد " جملةٌ حالية . ويجوز أن يكونَ فاعلُ " تريد " المخاطبَ ، أي : تريد أنت . ويجوز أن يكون ضمير العينين ، وإنما وُحِّد لأنهما متلازِمان يجوز أَنْ يُخْبِرَ عنهما خبرُ الواحد . ومنه قولُ امرئ القيس :

لِمَنْ زُحْلُوقَةٌ زُلَّ *** بها العَيْنان تَنْهَلُّ

وقولُ الآخر :

وكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ *** أو سُنْبُلاً كُحِلَتْ به فانهَلَّتِ

وفيه غيرُ ذلك . ونسبةُ الإِرادةِ إلى العينين مجازٌ . وقال الزمخشري : " الجملةُ في موضعِ الحال " . قال الشيخ : " وصاحبُ الحالِ إنْ قُدِّرَ " عَيْناك " فكان يكون التركيبُ : تريدان " . قلت : غَفَل عن القاعدةِ التي ذكرْتُها : من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يُخْبَرَ عنهما إخبارُ الواحدِ . ثم قال : " وإن قَدَّر الكافَ فمجيءُ الحالِ من المجرورِ بالإِضافةِ مثلَ هذا فيه إشكالٌ ، لاختلافِ العامل في الحالِ وذي الحال .

وقد أجاز ذلك بعضُهم إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزءِ ، وحَسَّن ذلك أنَّ المقصودَ نهيُه هو عليه السلام . وإنما جِيْءَ بقوله : " عيناك " والمقصودُ هو لأنهما بهما تكونُ المراعاةُ للشخصِ والتلفُّتُ له " .

قلت : وقد ظهر لي وَجْهٌ حسنٌ لم أرَ غيري ذَكَرَه : وهو أن يكون " تَعْدُ " مُسنداً لضميرِ المخاطب صلى الله عليه وسلم ، و " عيناك " بدلٌ من الضميرِ بدلُ بعضٍ من كل . و " تُرِيدُ " على وَجهَيْها : مِنْ كونها حالاً مِنْ " عيناك " أو من الضمير في تَعُدْ . إلا أنَّ في جَعْلِها حالاً من الضمير في " ولا تَعْدُ " ضَعفاً : من حيث إنَّ مراعاةَ المبدلِ منه بعد ذِكْرِ البدلِ قليلٌ جداً تقول : " الجارية حسنُها فاتِنٌ " ولا يجوز " فاتنةٌ " إلا قليلاً ، كقولِه : فكأنَّه لِهقُ السَّراةِ كأنَّه *** ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بسَوادِ

فقال : " مُعَيَّنٌ " مراعاةً للهاء في " كأنه " ، وكان الفصيحُ أن يقولَ : " مُعَيَّنان " مراعاةً لحاجبَيْه الذي هو البدلُ .

قوله : { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } العامَّة على إسنادِ الفعل ل " نا " و " قلبَه " مفعول به . وقرأ عمرو بن عبيد بن فائد وموسى الأسواري بفتح اللام ورفع " قلبُه " أَسْندوا الإِغفالَ إلى القلبِ . وفيه أوجهٌ . قال ابن جني : مَنْ ظَنَّنَا غافِلين عنه " . وقال الزمخشري : " مَنْ حَسِبْنا قلبُه غافلين ، مِنْ أَغْفَلْتُه إذا وَجَدْتَهُ غافلاً ، . وقال أبو البقاء : " فيه وجهان ، أحدُهما : وَجَدْنا قلبُه مُعْرِضين عنه . والثاني : أهملَ أَمْرَنا عن تَذَكُّرِنا " .

قوله : " فُرُطاً " يحتمل أَنْ يكون وصفاً/ على فُعُل كقولِهم : " فرسٌ فُرُطُ " ، أي : متقدِّمٌ على الخيل ، وكذلك هذا ، أي : متقدَّماً للحقِّ . وأن يكونَ مصدراً بمعنى التفريط أو الإِفراط . قال ابنُ عطية : " الفُرُطُ : يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع ، أي : أمرَه الذي يجب أن يَلْزَم ، ويُحتمل أَنْ يكونَ بمعنى الإِفراط والإِسراف .