الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمۡ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحۡمَٰنِ عِتِيّٗا} (69)

قوله : { أَيُّهُمْ أَشَدُّ } : في هذه الآيةِ أقوالٌ كثيرةٌ ، أظهرُها عند الجمهور من المعربين ، وهو مذهب سيبويه : أن " أيُّهم " موصولةٌ بمعنى الذي ، وأنَّ حركتَها بناءٍ بُنِيَتْ عند سيبويه ، لخروجِها عن النظائر ، و " أَشَدُّ " خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، والجملةُ صلةٌ ل " أيُّهم " ، و " أيُّهم " وصلتُها في محل نصب مفعولاً بها بقوله " لَنَنْزِعَنَّ " .

ول " ايّ " أحوالٌ أربعةٌ ، أحدُها : تُبْنى فيها وهي - كما في الآيةِ - أَنْ تضافَ ويُحْذَفَ صدرُ صلتِها ، ومثلُه قولُ الشاعر :

إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ *** فَسَلِّمْ على أيُّهم أَفْضَلُ

بضم " أيُّهم " وتفاصيلُها مقررةٌ في موضوعات النحو .

وزعم الخليل رحمه الله أنَّ " أيُّهم " هنا مبتدأٌ ، و " أشدُّ " خبرُه ، وهي استفهاميةٌ والجملةُ محكيةٌ بقولٍ مقدر والتقدير : لننزِعَنَّ من كل شيعةٍ المقولِ فيهم : أيُّهم أشدُّ . وقوَّى الخليلُ تخريجَه بقول الشاعر :

ولقد أَبَيْتُ من الفتاةِ بمنزلٍ *** فَأَبَيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوْمُ

وقال تقديره : فَأَبِيْتُ يُقال فيَّ : لا حَرِجٌ ولا محرومُ .

وذهب يونسُ إلى أنَّها استفهاميةٌ مبتدأةٌ ، ما بعدها خبرُها كقولِ الخليلِ ، إلا أنه زعم أنها مُعَلَّقَةٌ ل " نَنْزِعَنَّ " فهي في محلِّ نصب ، لأنَّه يُجَوِّز التعليقَ في سائر الأفعال ، ولا يحضُّه بأفعالِ القلوب ، كما يَخُصُّه بها الجمهور .

وقال الزمخشري : " ويجوز أَنْ يكونَ النَّزْعُ واقعاً على { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } كقوله : { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا } [ مريم : 50 ] ، أي : لَنَنْزِعَنَّ بعضَ كلِّ شيعةٍ فكأنَّ قائلاً قال : مَنْ هم ؟ فقيل : أيُّهم أشدُّ عِتِيَّا " . فجعل " أيُّهم " موصولةً أيضاً ، ولكن هي في قوله خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هم الذين هم أشدُّ " .

قال الشيخ : وهذا تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه ، وادَّعاءُ إضمارٍ غيرِ مُحْتاجٍ إليه ، وجَعْلُ ما ظاهرُه أنه جملةٌ واحدةٌ جملتين " .

وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أنَّ مفعولَ لَنَنْزِعَنَّ { كُلِّ شِيعَةٍ } و " مِنْ " مزيدةٌ ، قال : وهما يجيزان زيادةَ " مِنْ " ، و " أيُّ " استفهامٍ " ، أي : للنزِعَنَّ كلَّ شيعة . وهذا يُخالِفُ في المعنى تخريجَ الجمهورِ ؛ فإنَّ تخريجَهم يُؤَدِّي إلى التبعيضِ ، وهذا يؤدي إلى العمومِ ، إلا أَنْ تجعلَ " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ لا للتغيض فيتفق التخريجان .

وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى " لننزِعَنَّ " لننادِيَنَّ ، فعوملَ معامَلَته ، فلم يعمل في " أيّ " . قال المهدوي : " ونادى يُعَلَّق إذا كان بعده جملةُ نصبٍ ، فيعملُ في المعنى ، ولا يعملُ في اللفظِ " .

وقال المبرد : " أيُّهم " متعلِّقٌ ب " شيعةٍ " فلذلك ارتفع ، والمعنى : من الذين تشايَعُوا أيُّهم أشدُّ ، كأنهم يتبارَوْن إلى هذا " .

ويَلْزَمُه على هذا أَنْ يُقَدِّر مفعولاً ل " نَنْزِعَنَّ " محذوفاً . وقَدَّر بعضُهم في قولِ المبرد : من الذين تعاونوا فنظروا أيُّهم . قال النحاس : " وهذا قولٌ حسنٌ ، وقد حكى الكسائي تَشايَعُوا بمعنى تعاونوا " . قلت : وفي هذه العبارة المنسوبةِِ للمبرد قلقٌ ، ولا بَيَّنَ الناقلُ عنه وجهَ الرفع على ماذا يكون ، وبيَّنه أبو البقاء ، لكنْ جَعَلَ " أيُّهم " فاعلاً لِما تَضَمَّنَتَهْ " شيعة " من معنى الفعلِ ، قال : " التقدير : لننزِعَنَّ من كلِّ فريقٍ يُشَيَّع أيُّهُم ، وهي على هذا بمعنى الذي " .

ونُقِل عن الكوفيين أنَّ " أيُّهم " في الآية بمعنى الشرط . والتقدير : إنْ اشتدَّ عُتُوُّهم ، أو لم يَشْتَدَّ ، كما تقول : ضربْتُ القومَ أيُّهم غَضِبَ ، المعنى : إنْ غضبوا أو لم يَغْضبوا .

وقرأ طلحة بن مصرِّف ومعاذ بن مسلم العراء أستاذُ الفراءِ وزائدةُ عن الأعمش " أيُّهم " نصباً . قلت : فعلى هذه القراءة والتي قبلَها : ينبغي أَنْ يكونَ مذهبُ سيبويهِ جوازَ إعرابِها وبنائِها ، وهو المشهورُ عند النَّقَلَةِ عنه ، وقد نُقِل عنه أنَّه يحتَّم بناءَها . قال النحاس : " ما علمتُ أحداً من النحويين إلا وقد خطَّأ سيبويه " قال : " وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول : " ما تبيَّن لي أن سيبويه غَلِط في كتابه إلا في موضعين ، هذا أحدُهما " قال " وقد أعرب سيبويه " أيَّاً " وهي مفردةٌ لأنها مُضافةٌ ، فكيف يبنيها مضافةً " ؟ وقال الجرميُّ : " خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارَقْتُ الخندقَ إلى مكة أحداً يقول : " لأَضْرِبَنَّ أيُّهم قائمٌ " بالضمِّ بل يَنْصِبُ " .

و { عَلَى الرَّحْمَنِ } متعلقٌ ب " أشدُّ " ، و " عِتِيَّاً " منصوبٌ على / التمييز ، وهو مُحَوَّلٌ عن المبتدأ ، إذ التقديرُ : أيُّهم هو عتوُّه أشدُّ ، ولا بدَّ مِنْ محذوفٍ يَتِمُّ به الكلامُ ، التقدير : فَنُلْقِيهِ في العذابِ ، أو فنبدأ بعذابه . قال الزمخشري : " فإن قلتَ : بِمَ تتعلَّقُ على والباء ؟ فإنَّ تعلُّقَهما بالمَصْدَرَيْن لا سبيلَ إليه " . قلت : هما للبيان لا للصلةِ ، أو يتعلَّقان ب " أَفْعَل " ، أي : عُتُوُّهم أشدُّ على الرحمنِ ، وصَلْيُهم أَوْلَى بالنار كقولهم : " هو أَشَدُّ على خَصْمه ، وهو أَوْلَى بكذا " .

قلت : يعني ب " على " قولَه " على الرحمن " ، وبالباء قولَه " بالذين هم " . وقوله " بالمصدر " يعني بهما " عِتيَّا " و " صِلِيَّاً " وأمَّا كونُه لا سبيلَ إليه فلأنَّ المصدرَ في نيةِ الموصولِ ، ولا يتقدَّم معمولُ الموصولِ عليه .

وجَوَّزَ بعضهم أَنْ يكونَ " عِتِيَّاً " و " صِلِيَّاً " في هذه الآيةِ مصدرين كما تَقَدَّمَ ، وجَوَّزَ أَنْ يكونا جمعَ عاتٍ وصالٍ فانتصابُهما على هذا الحال . وعلى هذا يجوزُ أَنْ تتعلقَ على والباء بهما لزوالِ المحذورِ المذكورِ .