قوله : { أَيُّهُمْ أَشَدُّ } : في هذه الآيةِ أقوالٌ كثيرةٌ ، أظهرُها عند الجمهور من المعربين ، وهو مذهب سيبويه : أن " أيُّهم " موصولةٌ بمعنى الذي ، وأنَّ حركتَها بناءٍ بُنِيَتْ عند سيبويه ، لخروجِها عن النظائر ، و " أَشَدُّ " خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، والجملةُ صلةٌ ل " أيُّهم " ، و " أيُّهم " وصلتُها في محل نصب مفعولاً بها بقوله " لَنَنْزِعَنَّ " .
ول " ايّ " أحوالٌ أربعةٌ ، أحدُها : تُبْنى فيها وهي - كما في الآيةِ - أَنْ تضافَ ويُحْذَفَ صدرُ صلتِها ، ومثلُه قولُ الشاعر :
إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ *** فَسَلِّمْ على أيُّهم أَفْضَلُ
بضم " أيُّهم " وتفاصيلُها مقررةٌ في موضوعات النحو .
وزعم الخليل رحمه الله أنَّ " أيُّهم " هنا مبتدأٌ ، و " أشدُّ " خبرُه ، وهي استفهاميةٌ والجملةُ محكيةٌ بقولٍ مقدر والتقدير : لننزِعَنَّ من كل شيعةٍ المقولِ فيهم : أيُّهم أشدُّ . وقوَّى الخليلُ تخريجَه بقول الشاعر :
ولقد أَبَيْتُ من الفتاةِ بمنزلٍ *** فَأَبَيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوْمُ
وقال تقديره : فَأَبِيْتُ يُقال فيَّ : لا حَرِجٌ ولا محرومُ .
وذهب يونسُ إلى أنَّها استفهاميةٌ مبتدأةٌ ، ما بعدها خبرُها كقولِ الخليلِ ، إلا أنه زعم أنها مُعَلَّقَةٌ ل " نَنْزِعَنَّ " فهي في محلِّ نصب ، لأنَّه يُجَوِّز التعليقَ في سائر الأفعال ، ولا يحضُّه بأفعالِ القلوب ، كما يَخُصُّه بها الجمهور .
وقال الزمخشري : " ويجوز أَنْ يكونَ النَّزْعُ واقعاً على { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } كقوله : { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا } [ مريم : 50 ] ، أي : لَنَنْزِعَنَّ بعضَ كلِّ شيعةٍ فكأنَّ قائلاً قال : مَنْ هم ؟ فقيل : أيُّهم أشدُّ عِتِيَّا " . فجعل " أيُّهم " موصولةً أيضاً ، ولكن هي في قوله خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هم الذين هم أشدُّ " .
قال الشيخ : وهذا تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه ، وادَّعاءُ إضمارٍ غيرِ مُحْتاجٍ إليه ، وجَعْلُ ما ظاهرُه أنه جملةٌ واحدةٌ جملتين " .
وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أنَّ مفعولَ لَنَنْزِعَنَّ { كُلِّ شِيعَةٍ } و " مِنْ " مزيدةٌ ، قال : وهما يجيزان زيادةَ " مِنْ " ، و " أيُّ " استفهامٍ " ، أي : للنزِعَنَّ كلَّ شيعة . وهذا يُخالِفُ في المعنى تخريجَ الجمهورِ ؛ فإنَّ تخريجَهم يُؤَدِّي إلى التبعيضِ ، وهذا يؤدي إلى العمومِ ، إلا أَنْ تجعلَ " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ لا للتغيض فيتفق التخريجان .
وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى " لننزِعَنَّ " لننادِيَنَّ ، فعوملَ معامَلَته ، فلم يعمل في " أيّ " . قال المهدوي : " ونادى يُعَلَّق إذا كان بعده جملةُ نصبٍ ، فيعملُ في المعنى ، ولا يعملُ في اللفظِ " .
وقال المبرد : " أيُّهم " متعلِّقٌ ب " شيعةٍ " فلذلك ارتفع ، والمعنى : من الذين تشايَعُوا أيُّهم أشدُّ ، كأنهم يتبارَوْن إلى هذا " .
ويَلْزَمُه على هذا أَنْ يُقَدِّر مفعولاً ل " نَنْزِعَنَّ " محذوفاً . وقَدَّر بعضُهم في قولِ المبرد : من الذين تعاونوا فنظروا أيُّهم . قال النحاس : " وهذا قولٌ حسنٌ ، وقد حكى الكسائي تَشايَعُوا بمعنى تعاونوا " . قلت : وفي هذه العبارة المنسوبةِِ للمبرد قلقٌ ، ولا بَيَّنَ الناقلُ عنه وجهَ الرفع على ماذا يكون ، وبيَّنه أبو البقاء ، لكنْ جَعَلَ " أيُّهم " فاعلاً لِما تَضَمَّنَتَهْ " شيعة " من معنى الفعلِ ، قال : " التقدير : لننزِعَنَّ من كلِّ فريقٍ يُشَيَّع أيُّهُم ، وهي على هذا بمعنى الذي " .
ونُقِل عن الكوفيين أنَّ " أيُّهم " في الآية بمعنى الشرط . والتقدير : إنْ اشتدَّ عُتُوُّهم ، أو لم يَشْتَدَّ ، كما تقول : ضربْتُ القومَ أيُّهم غَضِبَ ، المعنى : إنْ غضبوا أو لم يَغْضبوا .
وقرأ طلحة بن مصرِّف ومعاذ بن مسلم العراء أستاذُ الفراءِ وزائدةُ عن الأعمش " أيُّهم " نصباً . قلت : فعلى هذه القراءة والتي قبلَها : ينبغي أَنْ يكونَ مذهبُ سيبويهِ جوازَ إعرابِها وبنائِها ، وهو المشهورُ عند النَّقَلَةِ عنه ، وقد نُقِل عنه أنَّه يحتَّم بناءَها . قال النحاس : " ما علمتُ أحداً من النحويين إلا وقد خطَّأ سيبويه " قال : " وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول : " ما تبيَّن لي أن سيبويه غَلِط في كتابه إلا في موضعين ، هذا أحدُهما " قال " وقد أعرب سيبويه " أيَّاً " وهي مفردةٌ لأنها مُضافةٌ ، فكيف يبنيها مضافةً " ؟ وقال الجرميُّ : " خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارَقْتُ الخندقَ إلى مكة أحداً يقول : " لأَضْرِبَنَّ أيُّهم قائمٌ " بالضمِّ بل يَنْصِبُ " .
و { عَلَى الرَّحْمَنِ } متعلقٌ ب " أشدُّ " ، و " عِتِيَّاً " منصوبٌ على / التمييز ، وهو مُحَوَّلٌ عن المبتدأ ، إذ التقديرُ : أيُّهم هو عتوُّه أشدُّ ، ولا بدَّ مِنْ محذوفٍ يَتِمُّ به الكلامُ ، التقدير : فَنُلْقِيهِ في العذابِ ، أو فنبدأ بعذابه . قال الزمخشري : " فإن قلتَ : بِمَ تتعلَّقُ على والباء ؟ فإنَّ تعلُّقَهما بالمَصْدَرَيْن لا سبيلَ إليه " . قلت : هما للبيان لا للصلةِ ، أو يتعلَّقان ب " أَفْعَل " ، أي : عُتُوُّهم أشدُّ على الرحمنِ ، وصَلْيُهم أَوْلَى بالنار كقولهم : " هو أَشَدُّ على خَصْمه ، وهو أَوْلَى بكذا " .
قلت : يعني ب " على " قولَه " على الرحمن " ، وبالباء قولَه " بالذين هم " . وقوله " بالمصدر " يعني بهما " عِتيَّا " و " صِلِيَّاً " وأمَّا كونُه لا سبيلَ إليه فلأنَّ المصدرَ في نيةِ الموصولِ ، ولا يتقدَّم معمولُ الموصولِ عليه .
وجَوَّزَ بعضهم أَنْ يكونَ " عِتِيَّاً " و " صِلِيَّاً " في هذه الآيةِ مصدرين كما تَقَدَّمَ ، وجَوَّزَ أَنْ يكونا جمعَ عاتٍ وصالٍ فانتصابُهما على هذا الحال . وعلى هذا يجوزُ أَنْ تتعلقَ على والباء بهما لزوالِ المحذورِ المذكورِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.