الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{كُتِبَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ} (180)

قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ } : " كُتِبَ " مبنيٌّ للمفعول وحُذِفَ الفاعلُ للعلم به - وهو اللهُ تعالى - وللاختصار . وفي القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ " الوصيةُ " أي : كُتِب عليكم الوصيةُ ، وجاز تذكيرُ الفعلِ لوجهين ، أحدُهُما : كونُ القائمِ مقامَ الفاعلِ مؤنثاً مجازياً ، والثاني : الفصلُ بينه وبين مرفوعه . والثاني : أنه الإِيصاءُ المدلولُ عليه بقوله : { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ } أي : كُتِب هو أي : الإِيصاء .

والثالث : أنه الجارُّ والمجرورُ ، وهذا يتَّجِهُ على رَأي الأخفشِ والكوفيين . و " عليكم " في محلِّ رفعٍ على هذا القولِ ، وفي محلِّ نصبٍ على القولين الأوَّلين .

قوله : { إِذَا حَضَرَ } العاملُ في " إذا " " كُتِب " على أنها ظرفٌ محضٌ ، وليس متضمناً للشرطِ ، كأنه قيل : كُتِب عليكم الوصيةُ وَقْتَ حضورِ الموتِ ، ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيه لفظَ " الوصية " لأنها مصدرٌ ، ومعمولُ المصدرِ لا يتقدَّم عليه لانحلاله لموصولٍ وصلةٍ إلا على مذهبِ مَنْ يَرى التوسُّع في الظرفِ وعديلِه ، وهو أبو الحسن ، فإنه لا يَمْنَعُ ذلك ، فيكون التقديرُ : كُتِب عليهم أَنْ تُوصوا وَقْتَ حضورِ الموت .

وقال ابن عطية : " ويتَّجِه في إعرابِ هذه الآية أن يكونَ " كُتِب " هو العامل في " إذا " ، والمعنى : توجَّه عليكم إيجابُ الله ومقتضى كتابه إذا حضر ، فعبَّر عن توجُّهِ الإِيجابِ بكُتب ، لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوبٌ في الأزل ، و " الوصيةُ " مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه بكُتِب . وجوابُ الشرطَيْنِ " إنْ " و " إذا " مقدرٌ يَدُلُّ عليه ما تقدَّم من قوله كُتِب " . قال الشيخ : " وفي هذا تناقضٌ لأنه جَعَلَ العاملَ في " إذا " كُتِبَ ، وذلك يَسْتَلْزم أن يكونَ " إذا " ظرفاً محضاً غيرَ متضمنٍ للشرطِ ، وهذا يناقِضُ قوله : " وجوابُ " إذا " و " إنْ " محذوفٌ ؛ لأنَّ إذا الشرطيةَ لا يَعْمَلُ فيها إلا جوابُها أو فعلُها الشرطِيُّ ، و " كُتِب " ليس أحدَهما ، فإنْ قيل : قومٌ يجيزون تقديم جوابِ الشرطِ فيكونُ " كُتب " هو الجوابَ ، ولكنه تقدَّم ، وهو عاملٌ في " إذا " فيكونُ ابنُ عُطية يقولُ بهذا القولِ . فالجوابُ : أنَّ ذلك لا يجوزُ ، لأنه صَرَّح بأنَّ جوابَها محذوف مدلولٌ عليه بكُتب ، ولم يَجْعَل كُتِبَ هو الجوابَ " .

ويجوز أَنْ يكونَ العاملُ في " إذا " الإِيصاء المفهوم من لفظ " الوصية " وهو القائمُ مقامَ الفاعلِ في " كُتِب " كما تقدَّم . قال ابنُ عطيةَ في هذا الوجهِ : " ويكونُ هذا الإِيصاءُ المقدَّرُ الذي يَدُلُّ عليه ذِكْرُ الوصية بعدُ هو العاملَ في " إذا " وترتفع " الوصيةُ " ، بالابتداء ، وفيه جوابُ الشرطين على [ نحو ] ما أنشده سيبويه :

مَنْ يفعلِ الصالحاتِ اللهُ يحفظُه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويكون رفعُها بالابتداءِ ، أي : فعليه الوصيةُ بتقديرِ الفاءِ فقط ، كأنه قال فالوصيةُ للوالدَيْنِ " . وناقشه الشيخ من وجوهٍ ، أحدُها : أنه متناقضٌ من حيث إنه إذا جَعَلَ " إذا " معمولةً للإِيصاء المقدَّر تمحَّضَتْ للظرفية فكيف يُقَدَّر لها جوابٌ كما تقدَّم تحريرُه ؟ والثاني : أنَّ هذا الإِيصاء : إمَّا أَنْ تُقَدِّرَ لَفظَه محذوفاً أو تُضْمِرَه ، وعلى كِلا التقديرين فلا يَعْمَلُ لأنَّ المصدرَ شَرْطُ إعماله ألاَّ يُحْذَفَ ولا يُضْمَرَ عند البصريين ، وأيضاً فهو قائمٌ مقامَ الفاعلِ فلا يُحْذَفُ . الثالث : قولُه " جوابُ الشرطين " والشيءُ الواحدُ لا يكونُ جواباً لاثنين ، بل جوابُ كلِّ واحد مستقلٌ بِقَدْرِه . الرابعُ : جَعْلُه حَذْفَ الفاءِ جائزاً في القرآن ، وهذا نصُّ سيبويه على أنه لا يجوزُ إلا ضرورةً وأنشد :مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرها *** والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ

وإنشادُه " مَنْ يَفْعَلِ الصالحات اللهُ يحفظه " يجوزُ أن يكونَ روايةً ، إلا أنَّ سيبويهِ لم يُنْشِدْه كذا بل كما تقدَّم والمبرد رُوي عنه أَّنه لا يُجِيزُ حَذْفَ الفاءِ مطلقاً ، لا في ضرورة ولا غيرها ، ويَرْوِيه : " مَنْ يفعل الخيرَ فالرحمنُ يشكُره " ، وردَّ الناسُ عليه بأنَّ هذه لَيسَتْ حجةً على روايةِ سيبويه .

ويجوزُ أَنْ تكونَ " إذا " شرطيةً ، فيكونَ جوابُها وجوابُ " إنْ " محذوفَيْن . وتحقيقُه : أنَّ جواب " إنْ " مقدَّرٌ ، تقديرُه : " كُتب الوصيةُ على أحدكم إذا حضَرهُ الموتُ إن ترك خيراً فلْيُوص " ، فقولُه " فَلْيُوصِ " جوابٌ لإِنْ ، حُذِفَ لدلالةِ الكلام عليه ، ويكونُ هذا الجوابُ المقدرُ دالاً على جوابِ " إذا " فيكونُ المحذوفُ دَالاً على محذوفٍ مثله . وهذا أَوْلَى مِنْ قولِ مَنْ يقول : إنَّ الشرطَ الثاني جوابُ الأول ، وحُذف جوابُ الثاني ، وأَوْلَى أيضاً مِنْ تقديرِ مَنْ يُقَدِّره مِنْ معنى " كُتِبَ " ماضي المعنى ، إلاَّ أَنْ يُؤَوِّلَه بمعنى : يتوجَّه عليكم الكَتْبُ إن تَرَكَ خيراً .

قوله : " الوصيةُ " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، [ أحدها : ] أن يكونَ مبتدأً وخبرُه " للوالدَيْن " . والثاني : أنه مفعولُ " كُتِب " وقد تقدَّم . الثالث : أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي : فعليه الوصيةُ ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوجٌ بنقلِ سيبويه .

قوله : { الْوَصِيَّةُ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، [ أحدها : ] أن يكون مبتدأً وخبرُه " للوالدَيْن " . والثاني : أنه مفعولُ " كُتِب " وقد تقدَّم . الثالث : أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي : فعليه الوصيةُ ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوجٌ بنقلِ سيبويه .

قوله : " بالمعروف " يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّق بنفسِ " الوصية " ، والثاني أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الوصية ، أي : حالَ كونِها ملتبسةً بالمعروفِ لا بالجَوْر .

قوله : { حقاً } في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها : أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، وذلك المصدرُ المحذوفُ : إمَّا مصدرُ " كُتِب " أو مصدرُ " أَوْصى " أي كَتْباً أو إيصاءً حقاً . الثاني : أنه حالٌ من المصدَرِ المُعَرَّفِ المحذوف : [ إِمَّا ] مصدرُ " كُتِب " أو " أَوْصَى " كما تقدَّم . الثالث : أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مؤكد لمضمونِ الجملة ، فيكونُ عاملُه محذوفاً ، أي : حَقَّ ذلك حقاً ، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء . وقال الشيخ : " وهذا تَأْباه القواعدُ النحوية ، لأنَّ ظاهرَ قولِه : " على المتقين " أن يتعلَّق ب " حقاً " أو يكونَ في موضعِ الصفة له ، وكِلا التقديرين لا يجوزُ . أمَّا الأولُ فلأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ ، وأمَّا الثاني فلأن [ الوصفَ يُخْرِجُه عن التأكيد ] ، وهذا لاَ يَلْزَمُهم فإنهم والحالةُ هذه لا يقولونُ إنَّ " على المتقين " متعلِّقٌ به . وقد نَصَّ على ذلك أبو البقاء فإنه قال :/ " وقيل هو متعلقٌ بنفسِ المصدرِ وهو ضعيفٌ ، لأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ ، وإنما يَعْمَلُ المصدرُ المنتصِبُ بالفعلِ المحذوفِ إذ نابَ عنه كقولِك : ضرباً زيداً ، أي : اضرِبْ " إلا أنه جَعَله صفَةً لحقّ ، فهذا يَرِدُ عليه .

وقال بعضُ المُعْرِبين : " إنه مؤكِّدُ لِما تَضمَّنَه معنى " المتقين " كأنه قيل : على المتقين حقاً ، كقوله : { أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [ الأنفال : 74 ] . وهذا ضعيفٌ لتقدُّمِه على عامِله الموصولِ ، ولأنه لا يتبادَرُ إلى الذهن .

قال الشيخ : " والأَوْلى عندي أن يكونَ مصدراً مِنْ معنى " كُتب " لأنَّ معنى " كَتَبَ الوصيةَ " أي : حَقَّتْ وَوَجَبَتْ ، فهو مصدرٌ على غيرِ الصَّدْر نحو : قَعَدْتُ جلوساً .