الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ} (186)

قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ } : في " أُجيب " وجهانِ أحدُهما : أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً ل " قَرِيبٌ " والثاني أنها خبرٌ ثانٍ لإِنِّي ، لأنَّ " قريب " خبرٌ أولُ .

ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعدَ فاء الجزاء تقديرُه : فَقُلْ لهم إني قَرِيبٌ ، وإنما احتُجْنا إلى هذا التقديرِ لأنَّ المترتِّب على الشرط الإِخبارُ بالقُرْبِ . وجاء قولُه " أجيب " مراعاةً للضميرِ السابقِ على الخبرِ ، ولم يُراعَ الخبرُ فيقالُ : " يُجيبُ " بالغَيْبَة مراعاةً لقولِه : " قريبٌ " لأنَّ الأَشهَر من طريقتي العرب هو الأولُ ، كقوله تعالى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ النمل : 55 ] وفي أخرى

{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ النمل : 47 ] ، وقولِ الشاعر :

وإنَّا لَقَوْمٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً *** إذا ما رَأَتْهُ عامِرٌ وسَلُولُ

/ ولو راعى الخبر لقال : " مَا يَرَوْنَ القَتْلَ " .

وفي قوله : { عَنِّي } و " إنِّي " التفاتٌ من غَيْبَة إلى تَكَلُّمٍ ، لأنَّ قبلَه ، " ولتُكَّبِّروا الله " والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ . والكافُ في " سألَكَ " للنبي صلى الله عليه وسلم وإنْ لم يَجْرِ لَه ذكْرٌُ ، إلاَّ أنَّ قولَه : { أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } يَدُلُّ عليه ، لأنَّ تقديره : " أُنْزِلَ فيه القرآنُ على الرسول صلى الله عليه وسلم " . وفي قوله : " فإني قريب " مجازٌ عن سرعةِ إجابته لدعوةِ داعيه ، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحس لتعاليه عن المكان ، ونظيرُه : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] ، " " هو بَيْنَكم وبين أَعْنَاق رواحلِكم "

والعاملُ في " إذا " قال الشيخ : " قولُه : أُجيبُ " يعني " إذا " الثانيةَ فيكونُ التقديرُ : أُجيبُ دعوته وقتَ دعائِه ، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمجردِ الظرفية وأَنْ تكونَ شرطيةً ، وحذف جوابها لدلالةِ " أُجِيْبُ " عليه ، وحينئذٍ لا يكونُ " أُجيبُ " هذا الملفوظُ به هو العامل فيها ، بل ذلك المحذوفُ ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجيز تقديمَه على الشرط ، وأمَّا " إذا " الأولى فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ . والهاء في " دعوة " ليستْ الدالَّة على المَرَّة نحو : ضَرْبَة وقَتْلَة ، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ نحو : رَحْمة ونَجْدة ، فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة .

والياءان من قولِه : " الداع - دعانِ " من الزوائدِ عند القُرَّاء ، ومعنى ذلك أنَّ الصحابَة لم تُثْبِتْ لها صورةً في المصحفِ ، فمن القُرَّاء مَنْ أَسْقَطَها تَبَعاً للرسم وَقْفاً ووَصْلاً ، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَيْن ، ومنهم مَنْ يُثْبِتَها وَصَّلاً ويَحْذِفُها وَقْفاً ، وجملةُ هذه الزوائد اثنتان وستون ياءً ، ومعرفةُ ذلك مُحَالةُ على كتبِ القراءاتِ ، فَأَثْبَتَ أبو عمروٍ وقالون هاتين الياءيْن وَصْلاً وحَذَفَاها وقفاً .

قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي } في الاستفعالِ هنا قولان ، أحدُهما : أنَّه للطلب على بابِه ، والمعنى : فَلْيَطْلبُوا إجابتي قاله ثعلب . والثاني : أنه بمعنى الإِفعال ، فيكون استفعل وأَفْعَل بمعنىً ، وقد جاءَتْ منه ألفاظٌ نحو : أقرَّ واستقرَّ ؛ وأبَلَّ المريضُ واسْتَبَلَّ ، وأحصدَ الزرعُ واستحصد ، واستثار الشيء وأثارَه ، واستعجله وأَعْجَله ، ومنه استجابَهُ وأجَابَهُ ، وإذا كان استفعل بمعنى أَفْعَل فقد جاء متعدِّياً بنفسه وبحرف الجرِّ ، إلا أنه ل يَرِدْ في القرآن إلاَّ مُعَدَّىً بحرف الجرِّ نحو : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ } [ الأنبياء : 84 ] فاستجاب لَهُمْ " ، ومِنْ تعدِّيه بنفسِه قوله :

وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدى *** فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجيبُ

ولقائلٍ أن يقولَ : يَحْتَمِلُ هذا البيتُ أَنْ يكونَ مِمَّا حُذِفَ منه حرفُ الجر .

واللامُ لامُ الأمر ، وفَرَّق الرماني بين أَجاب واستجاب : بأنَّ " استجاب " لا يكون إلا فيما فيه قبول لِما دُعِي إليه نحو : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ } [ الأنبياء : 76 ]

{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] ، وأمَّا " أجاب " فأعمُّ لأنه قد يُجيب بالمخالفة ، فَجَعَل بينهما عموماً وخصوصاً .

والجمهورُ على " يَرْشُدون " بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ ، وماضيه رَشَدَ بالفتح وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين ، وقُرىء بفتحها . وماضيه رَشِد بالكسر ، وقرىء ، يُرْشَدون " مبنياً للمفعول ، وقرىء : " يُرْشِدُونَ " بضم الياء وكسر الشين من أَرْشد . المفعولُ على هذا محذوفٌ تقديرُه : يُرْشِدون غيرَهم .