الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ فَأۡتُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ} (222)

قولُه تعالى : { عَنِ الْمَحِيضِ } : مَفْعِلِ من الحَيْضِ ، ويُراد به المصدرُ والزمانُ والمكانُ ، تقولُ : حاضَتِ المرأَةُ تحيضُ حَيْضاً ، ومَحِيضاً ومَحاضاً ، فَبَنَوْه على مَفْعِل ومَفْعَل بالكسرِ والفتحِ .

واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ اليائيها ثلاثةَ مذاهبَ ، أحدُها : أنه كالصحيح ، فتُفْتَحُ عينُه مراداً به المصدرُ ، وتُكْسَرُ مراداً به الزمانُ والمكانُ . والثاني : أَنْ يُتَخَيَّرُ بين الفتحِ والكسر في المصدرِ خاصةً ، كما جاء هنا : المَحيضُ والمَحاضُ ، ووجهُ هذا القول أنه كَثُر هذان الوجهان : أعني الكسر والفتح فاقتاسا . والثالث : أن يُقْتَصَرَ على السماع ، فيما سُمِع فيه الكسرُ أو الفتحُ لا يَتَعَدَّى . فالمحيضُ المرادُ به المصدرُ ليس بمقيس على المذهبين الأول والثالث ، مقيسٌ على الثاني . ويقال : امرأَةٌ حائِضٌ ولا يُقال : " حائِضَةٌ " إلا قليلاً ، أنشدَ الفراء :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كحائِضَةٍ يُزْنَى بها غيرِ طاهرِ

والمعروفُ أن النَّحويين فَرَّقوا بين حائض وحائضة : فالمجرد من تاء التأنيث بمعنى النَسَب أي : ذاتُ حيضٍ ، وإنْ لم يكن عليها حَيْضٌ ، والملتبسُ بالتاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال ، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعرِ ذلك ، وهكذا كلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمؤنثِ نحو : طامِث ومُرْضِع وشبهِهما/ .

وأصلُ الحَيْض السَّيَلانُ والانفجار ، يُقال : حاضَ السيلُ وفاضَ ، قال الفراء : " حاضَت الشَجرةُ أي : سالَ صَمْغُها " ، قال الأزهري : " ومن هذا قيل للحوضِ : حَيْضٌ ، لأنَّ الماءَ يسيل إليه " والعربُ تُدْخِلُ الواو على الياءِ ، والياءَ على الواو ، لأنهما من حَيَّز واحدٍ وهو الهواء . والظاهرُ أن المحيض في هذه الآية يُراد به المصدرُ وإليه ذهب الزمخشري وابن عطية ، قال ابن عطية : " والمحيضُ مصدرٌ كالحيضِ ، ومثله : " المقيل " مِنْ قال يَقيل ، قال الراعي :

بُنِيَتْ مَرافِقُهُنَّ فوقَ مَزَلَّة *** لا يَسْتَطِيعُ بها القُرادُ مَقيلا

وكذلك قال الطبري : " إنَّ المحيضَ اسمُ كالمعيش اسمُ العيشِ " وأنشد لرؤبة :

إليك أشكو شدَّة المعيشِ *** ومَرَّ أعوامٍ نَتَفْنَ ريشي

وقيل : المَحيضُ في الآية المرادُ به اسمُ موضعِ الدم وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً ، ويؤيِّد الأول قولُه : { قُلْ هُوَ أَذًى } . وقد يجاب عنه بأنَّ ثَمَّ حذفَ مضافٍ أي : هو ذو أذىً ، ويؤيِّدُ الثانيَ قولُه : { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } . ومَنْ حَمَلَه على المصدر قَدَّر هنا حذف مضافٍ أي : فاعتزلوا وَطْءَ النساءِ في زمانِ الحَيْضِ ، ويجوزُ أن يكونَ المحيضُ الأولُ مصدراً والثاني مكاناً .

وقوله : { هُوَ أَذَى } فيه وجهان : أحدُهما قالَه أبو البقاء : " أن يكونَ ضميرَ الوطءِ الممنوعِ " وكأنه يقول : إن السياقَ يَدُلُّ عليه وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ . الثاني : أن يعودَ على المحيض ، قال أبو البقاء : " ويكون التقديرُ : " هو سببُ أذىً " ، وفيه نظرٌ ، فإنَّهم فَسَّروا الأذى هنا بالشيء القذِرِ ، فإذا أَرَدْنا بالمحيضِ نَفْسَ الدمِ كانَ شيئاً مُسْتَقْذَراً فلا حاجة إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ .

وجاء : { وَيَسْأَلُونَكَ } ثلاثَ مرات بحرفِ العطفِ بعدَ قولِه : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ } [ البقرة : 21 ] وهي : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } [ البقرة : 219 ] ، و { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } [ البقرة : 320 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } [ البقرة : 222 ] . وجاء " يَسْأَلُونك " أربعَ مراتٍ من غيرِ عطفٍ .

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ } [ البقرة : 189 ] { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ }

[ البقرة : 215 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } [ البقرة : 217 ]

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ } [ البقرة : 219 ] . فما الفرقُ ؟ والجوابُ : أنَّ السؤالاتِ الأواخرَ وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ فَجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ وهو الواوُ ، أمَّا السؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ ، وجيء بها وحدها .

قوله : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } " حتى " هنا بمعنى " إلى " والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ ، وهو مبنيٌّ لاتصالِه بنون الإِناثِ .

وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بتشديد الطاءِ والهاءِ ، والأصلُ : يَتَطَهَّرْنَ ، فَأُدغم . والباقون : " يَطْهُرْنَ " مضارعُ طَهُر . قالوا : وقراءةُ التشديد معناها يَغْتَسِلْنِ . وقراءةُ التخفيف معناها يَنْقَطِعُ دَمُهُنَّ . ورجَّح الطبري قراءة التشديدِ وقال : " هي بمعنى يَغْتَسِلْنَ لإِجماع الجميع على تحريمِ قُرْبان الرجالِ امرأتَه بعد انقطاع الدم حتى تَطْهُرَ ، وإنما الخلافُ في الطُهْر ما هو ؟ هل هو الغُسْلُ أو الوضوءُ أو غَسْل الفرجِ فقط ؟ " قال ابنُ عطية : " وكُلٌّ واحدة من القراءتين تَحْتِمَل أن يُرادَ بها الاغتسالُ بالماءِ ، وأن يُرادَ بها انقطاع الدمِ وزوالُ أذاه . قال : " وما ذَهَبَ إليه الطبري مِنْ أنَّ قراءَة التشديدُ مُضَمَّنُها الاغتسالُ ، وقراءةُ التخفيف مُضَمَّنُها انقطاعُ الدم أمرٌ غيرُ لازم ، وكذلك ادعاؤه الإِجماع " وفي رَدَّ ابنِ عطية عليه نظرٌ ؛ إذ لو حَمَلْنَا القراءتين على معنىً واحدٍ لَزِم التكرارُ . ورجَّح الفارسي قراءةَ التخفيف لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمِثَ وهو ثلاثي .

قوله : { مِنْ حَيْثُ } في " مِنْ " قولان ، أحدُهما : أنُّها لابتداءِ الغايةِ ، أي : من الجهة التي تنتهي إلى موضِعْ الحَيْض . والثاني : أن تكونَ [ بمعنى ] " في " ، أي : في المكان الذي نُهيْتُم عنه في الحَيْض . ورَجَّح هذا بعضُهم بأنه ملائمٌ لقولِه : { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } ، ونَظَّر بعضُهم هذه الآية بقولِهِ : { لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } [ الجمعة : 9 ] { مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ } [ فاطر : 40 ] أي : في يوم الجمعة وفي الأرضِ . قال أبو البقاء : " وفي الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه : أَمَرَكُم اللهُ بالإِتيانِ منه " يعني أنَّ المفعولَ الثاني حُذِفَ للدلالةِ عليه . وكَرَّر قولَه " يحب " دلالةً على اختلافِ المقتضي للمحبَّة فتختلفُ المحبَّةُ .