الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } : " الذين " يَحْتمل الرفعَ والنصبَ والجرَّ ، والظاهرُ الجرُّ ، وهو من ثلاثة أوجه ، أظهرُها : أنه نعتٌ للمتقين ، والثاني : بدلٌ ، والثالث : عطفُ بيان ، وأمَّا الرفعُ فمن وجهَيْنِ ، أحدُهما : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ على معنى القطع ، وقد تقدَّم . والثاني : أنه مبتدأ ، وفي خبره قولان : أحدهما : أولئك الأولى ، والثاني : أولئك الثانية والواوُ زائدةٌ . وهذان القولان رديئان مُنْكَران لأنَّ قولَه : " والذين يؤمنون " يمنع كونَ " أولئك " الأولى خبراً ، ووجودُ الواوِ يمنع كونَ " أولئك " الثانية خبراً أيضاً ، وقولُهم الواوُ زائدةٌ لا يُلْتفَتْ إليه . والنصبُ على القطع ، و " يؤمنون " صلةٌ وعائدٌ ، وهو مضارعٌ ، علامةُ رفعهِ النونُ ، لأنه أحدُ الأمثلةِ الخمسةِ . والأمثلةُ الخمسةُ عبارةٌ عن كل فعلٍ مضارعٍ اتصلَ به ألفُ اثنين أو واوُ جمع أو ياءُ مخاطبةٍ ، نحو : يؤمنان تؤمنان يؤمنون تؤمنون تؤمنين . والمضارعُ معربٌ أبداً ، إلا أن يباشرَ نونَ توكيدٍ أو إناثٍ ، على تفصيلٍ يأتي إن شاء الله تعالى في غضونِ هذا الكتاب .

وهو مضارعُ آمَنَ بمعنى صَدَّقَ ، وآمَنَ مأخوذٌ من أَمِنَ الثلاثي ، فالهمزة في " أَمِنَ " للصيرورة نحو : أَعْشَبَ المكانُ أي : صار ذا عشبٍ ، أو لمطاوعةِ فَعَّلَ نحو : كَبَّ فَأَكَبَّ ، وإنما تعدَّى بالباء لأنه ضُمِّن معنى اعترف ، وقد يتعدَّى باللام كقوله تعالى : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى } [ يونس : 83 ] إلا أنَّ في ضمنِ التعدية باللام التعديةَ بالباء ، فهذا فَرْقُ ما بين التعديتين .

وأصلُ " يُؤْمِنون " : يُؤَمِنُون بهمزتين ، الأولى : همزةُ أَفْعَل ، والثانيةُ : فاء الكلمةِ ، حُذِفَت الأولى لقاعدة تصريفية ، وهو أن همزة أفْعل تُحْذَف بعد حرفِ المضارعةِ واسمِ فاعله ومفعولِه نحو : أُكْرِمُ وتُكْرم ويُكْرم ونُكْرم وأنتَ مُكْرِم ومُكْرَم ، وإنما حُذِفَت لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان ، وذلك إذا كان حرفُ المضارَعةِ همزةً نحو : أنا أُكرم . الأصل : أُأَكْرِمُ بهمزتين ، الأولى : للمضارَعةِ ، والثانيةُ : هَمزَةُ أَفْعل ، فحُذِفَت الثانيةُ لأنَّ بها حَصَل الثِّقَلُ ، ولأن حرفَ المضارَعَةِ أَوْلَى بالمحافظةِ عليه ، ثم حُمِل باقي البابِ على ذلك طَرْداً لِلْبابِ ، ولا يجوز ثبوتُ همزةِ أَفْعَل في شيء من ذلك ، إلا في ضرورة كقوله :

فإنَّه أَهْلٌ لأِنْ يُؤَكْرَما *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

و " بالغيبِ " متعلِّق بيؤمنون ، ويكون مصدراً واقعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أو اسمِ المفعولِ . وفي هذا الثاني نظرٌ لأنه مِنْ غابَ وهو لازمٌ فكيف يُبْنَى منه اسمُ مفعولٍ حتى يَقَعَ المصدرُ موقعَه ؟ إلا أن يقال إنه واقعٌ موقعَ اسمِ المفعولِ من فَعَّل مضعفاً متعدياً أي المغيَّب وفيه بُعْدٌ .

وقال الزمخشري : " يجوز أن يكون مخفَّفاً من فَيْعِل نحو : هَيْن من هيِّنٍ ، ومَيْت من مَيِّت " ، وفيه نظرٌ لأنه لا ينبغي أن يُدَّعى ذلك فيه حتى يُسمَعَ مثقلاً كنظائره ، فإنها سُمِعَتْ مخفَّفةً ومثقَّلةً ، ويَبْعُد أن يقالَ : التُزِم التخفيفُ في هذا خاصةً .

ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال فيتعلَّقَ بمحذوف أي : يُؤْمِنُون ملتبسينَ بالغَيْب عن المؤمِنِ بهِ ، والغيبُ حينئذٍ مصدرٌ على بابه .

وهمزةُ يُؤْمِنُون -وكذا كلُّ همزةٍ ساكنةٍ- يجوز أن تُدَيَّر بحركةِ ما قبلها فَتُبْدَلَ حرفاًجانساً نحو : راس وبير ويُؤمن ، فإن اتَّفق أن يكونَ قبلها همزةٌ أخرى وَجَبَ البدلُ نحو إيمان وآمن .

و " يُقيمون " عطفٌ على " يُؤمنون " فهو صلةٌ وعائدٌ . وأصلُه يُؤَقْوِمُونَ حُذفت همزةُ أَفْعَل لوقوعها بعد حرفِ المضارَعة كما تقدَّم فصار يُقْوِمون ، فاستُثْقِلَتْ الكسرةُ على الواوِ فَفُعِل فيه ما فُعِل في " مستقيم " ، وقد تقدَّم في الفاتحة . ومعنى يُقيمون : يُدِيمون أو يُظْهِرون ، قال الشاعر :

أَقَمْنا لأهلِ العِراقَيْنِ سوقَ ال *** طِعانِ فخاموا وولَّوْا جميعاً

وقال آخر :

وإذا يُقال أتيتُمُ لم يَبْرحوا *** حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طِعانِ

و " الصلاةَ " مفعول به ووزنُها : فَعَلَة ، ولامها واو لقولهم : صَلَوات ، وإنما تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبت ألفاً ، واشتقاقُها من الصَّلَوَيْنِ وهما : عِرقانِ في الوِرْكين مفترقانِ من الصَّلا وهو عِرْقٌ مستبطِنٌ في الظهر منه يتفرَّق الصَّلَوان عندَ عَجْب الذَّنْب ، وذلك أن المصلِّي يحرِّك صَلَوَيْه ، ومنه المُصَلِّي في حَلْبة السباق لمجيئِه ثانياً عند صَلَوَي السابق . والصلاةُ لغةً : الدعاءُ ، قال :

تقول بِنْتي وقد قَرَّبْتُ مُرْتَحَلا *** يا ربِّ جَنِّبْ أبي الأَوْصَابَ والوَجَعا

عليكِ مثلُ الذي صَلَّيْتِ فاغتمضي *** يوماً فإنَّ لجَنْبِ المَرْءِ مُضطجَعَا

أي : مثلُ الذي دَعَوْتِ ، ومثلُه :

لها حارِسٌ لا يَبْرَحُ الدهرَ بيتَها *** وإن ذُبِحَتْ صَلَّى عليها وَزَمْزَما

وفي الشرع : هذه العبادةُ المعروفة ، وقيل : هي مأخوذةٌ من اللزوم ، ومنه : " صَلِيَ بالنار " أي لَزِمَها ، [ قال ] :

لم أَكُنْ مِنْ جُناتِها عَلِمَ الل *** هُ وإني بحَرِّها اليومَ صالي

وقيل : من صَلَيْتُ العودَ بالنار أي قوَّمْتُه بالصِّلاء وهو حَرُّ النار ، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ ، كأنَّ المُصَلِّي يُقَوِّم نفسه ، قال :

فلا تَعْجَلْ بأمرِكَ واستَدِمْهُ *** فما صَلَّى عَصاكَ كمُسْتديمِ

ذكر ذلك جماعةٌ أَجِلَّة وهو مُشْكِلٌ ، فإن الصلاة مِنْ ذواتِ الواوِ وهذا من الياء .

و { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } جارٌّ ومجرور متعلِّق ب " يُنْفِقون " ، و " ينفقون " معطوفٌ على الصلة قبله ، و " ما " المجرورةُ تحتمل ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أنْ تكونَ اسماً بمعنى الذي ، ورزقناهم صلتُها ، والعائدُ محذوفٌ ، قال أبو البقاء : " تقديره : رزقناهموه أو رزقناهم إياه " ، وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشْكالٌ ، لأنَّ تقديرَه متصلاً يلزم منه اتصال الضمير مع اتحاد الرتبة ، وهو واجبُ الانفصال ، وتقديرُه منفصلاً يمنع حذفَه ؛ لأنَّ العائدَ متى كان منفصلاً امتنع حَذْفُه ، نصُّوا عليه ، وعَلَّلوه بأنه لم يُفْصَلْ إلا لِغَرضٍ ، وإذا حُذِفَ فاتَتِ الدلالةُ على ذلك الغرضِ . ويمكن أن يُجاب عن الأولِ بأنه لمَّا اختلَفَ الضميران جَمْعاً وإفراداً وإن اتَّحدا رتبةً جاز اتصالُه ، ويكون كقوله :

وقد جَعَلَتْ نفسي تَطيبُ لِضَغمَةٍ *** لِضَغْمِهماها يَقْرَعُ العظمَ نَابُها

وأيضاً فإنه لا يلزمُ مِنْ مَنْعِ ذلك ملفوظاً به مَنْعُه مقدَّراً لزَوالِ القُبْح اللفظي . وعن الثاني بأنه إنما يُمنع لأجلِ اللَّبْس الحاصلِ ولا لَبْسَ هنا . الثاني : يجوز أن يكونَ نكرةً موصوفةً ، والكلامُ في عائِدها كالكلامِ في عائِدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً . الثالث : أن تكونَ مصدريةً ، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعول أي : مرزوقاً ، وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجهَ قال : " لأنَّ الفِعْلَ لا يُنْفَقُ " من أنَّ المصدر مرادٌ به المفعولُ .

والرزقُ لغةً : العطاءُ ، وهو مصدرٌ ، قال تعالى : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 75 ] ، وقال الشاعر :

رُزِقْتَ مالاً ولم تُرْزَقْ منافِعَه *** إنَّ الشقيَّ هو المَحْرُوم ما رُزِقا

وقيل : يجوز أن يكونَ " فِعلاً " بمعنى مَفْعول نحو : ذِبْح ورِعْي ، بمعنى مذبوح وَمَرْعِيّ . وقيل : الرزق بالفتح مصدرٌ ، وبالكسر اسم ، وهو في لغة أزد شنوءة الشكر ومنه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] وسيأتي في موضعه ] ، ونفق الشيء نَفِد ، وكلُّ ما جاء ممَّا فاؤُه نونٌ وعينُه فاءٌ فدالٌ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأمَّلت ، قال الزمخشري ، وهو كما قال نحو : نَفِد نَفَق نَفَر نَفَذ نَفَس نَفَش نَفَثَ نفح نفخ نَفَضَ نَفَل ، وَنَفق الشيءُ بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَت الدابَّةُ : ماتَتْ نُفوقاً : والنفقَةُ : اسمُ المُنْفَق .

و " مِنْ " هنا لابتداء الغاية ، وقيل : للتبعيض ، ولها معانٍ أُخر : بيانُ الجنس : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ، والتعليل : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ } [ البقرة : 19 ] ، والبدلُ : { بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ } [ التوبة : 38 ] ، والمجاوزةُ : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } [ آل عمران : 121 ] ، وانتهاء الغاية قريبٌ منه ، والاستعلاءُ :

{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ } [ الأنبياء : 77 ] ، والفصلُ : { يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [ البقرة : 220 ] ، وموافقةُ الباءِ وفي : { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] ، مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ } [ فاطر : 40 ] ، والزيادةُ باطِّراد ، وذلك بشرطين : كون المجرورِ نكرةً والكلامِ غيرَ موجَبٍ ، واشترط الكوفيون التنكيرَ فقط ، ولم يَشْترط الخفشُ شيئاً .

والهمزةُ في " أَنْفَقَ " للتعدية ، وحُذِفَتْ من " ينفقون " لِما تقدَّم في

{ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 3 ] .