الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ تُثِيرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِي ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةٞ لَّا شِيَةَ فِيهَاۚ قَالُواْ ٱلۡـَٰٔنَ جِئۡتَ بِٱلۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ} (71)

قوله تعالى : { لاَّ ذَلُولٌ } : المشهورُ " ذلولٌ " بالرفع على أنها صفةٌ لبقرة ، وتوسَّطت " لا " للنفي كما تقدَّم في { لاَّ فَارِضٌ } ، أو على أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : لا هي ذلولٌ . والجملةُ من هذا المبتدأ والخبرِ في محلِّ رفعٍ صفةً لبقرة . وقرئ : " لا ذَلولَ " بفتح اللام على أنها " لا " التي للتبرئة والخبرُ محذوف ، تقديره : لا ذلولَ ثَمَّ ، أو ما أشبهه ، وليس المعنى على هذه القراءةِ ، ولذلك قال الأخفشُ : " لا ذلولٌ نعت ولا يجوز نصبُه " . والذَّلولُ : التي ذُلِّلَتْ بالعمل ، يقال : بَقَرةٌ ذَلول بَيَِّنَةُ الذِّل بكسر الذال ، ورجلٌ ذَليل بيِّنُ الذُّل بضمها ، وقد تقدَّم عند قوله : { الذِّلَّةُ } [ البقرة : 61 ] .

قوله : { تُثِيرُ الأَرْضَ } في هذه الجملةِ أقوالٌ كثيرٌ ، أظهرهُا أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضمير المستكنِّ في " ذلول " تقديرُه : لا تُذَلُّ حالَ إثارتِها [ الأرضَ ] . وقال ابن عطية : " وهي عند قومٍ جملةً في موضعِ الصفةِ لبقرة ، [ أي ] : لا ذلولٌ مثيرةٌ ، وقالَ أيضاً : ولا يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في موضعِ الحالِ لأنها من نكرةٍ " ، أمَّا قولُه : " في موضع الصفةِ " فإنه يلزم منه أنَّ البقرةَ كانت مثيرةً للأرض ، وهذا لم يَقُلْ به الجمهور ، بل قال به بعضُهم ، وسيأتي بيانُه قريباً . وأمَّا قولُه : " لا يجوز أن تكونَ حالاً يعني من " بقرة " لأنها نكرةٌ . فالجوابُ : أنَّا لا نُسَلِّم أنها حالٌ من بقرة ، بل من الضميرِ في " ذلولٌ " كما تقدَّم شرحه ، أو نقولُ : بل هي حالٌ من النكرة قد وُصِفَتْ وتخصَّصَتْ بقوله { لاَّ ذَلُولٌ } وإذا وُصِفَت النكرةُ ساغَ إتيانُ الحالِ منها اتفاقاً . وقيل : إنها مستأنفةً ، واستئنافُها على وجهين ، أحدُهما : أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي : هي تثير ، والثاني : أنها مستأنفةٌ بنفسِها من غير تقديرِ مبتدأ ، بل تكونُ جملةً فعليةً ابتُدئ بها لمجرد الإِخبار بذلك .

وقد مَنَعَ من القول باستئنافها جماعةٌ ، منهم الأخفش علي بن سليمان ، وعلَّل ذلك بوجهين ، أحدُهما : أنَّ بعدَه : { وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ } فلو كان مستأنفاً لما صَحَّ دخولُ " لا " بينه وبين الواوِ . الثاني : أنها لو كانت تثير الأرضَ لكانَتِ الإِثارةُ قد ذَلَّلَتْها ، واللهُ تعالى نفى عنها ذلك بقولِه : لا ذلولٌ . انتهى . وهذا المعنى هو الذي منعتُ به أن يكون " تثيرُ " صفةً لبقرة لأن اللازمَ مشتركٌ ، ولذلك قال أبو البقاء : " ويجوزُ على قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ هذا الوجهَ يعني كونها تثيرُ ولا تَسْقي أن تكونَ تُثير في موضعِ رفعٍ صفةً لبقرة " . وقد أجابَ بعضُهم عن الوجه الثاني بأن إثارةَ الأرض عبارةٌ عن مَرَحِها ونشاطِها كما قال امرؤ القيس :

يُهيلُ ويُذْري تُرْبَهُ ويُثيرُه *** إثارةَ نَبَّاثِ الهَواجِرِ مُخْمِسِ

أي : تثيرُ الأرضَ مَرَحاً ونشاطاً لا حَرْثاً وعَمَلاً ، وقال أبو البقاء : " وقيل هو مستأنفٌ ، ثم قال : " وهو بعيدٌ عن الصحة ، لوجهينِ ، أحدُهما : أنه عَطَفَ عليه قوله : { وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ } فنفى المعطوفَ ، فيجب أن يكونَ المعطوفُ عليه كذلك لأنه في المعنى واحدٌ ، ألا ترى أنك لا تقول : مررتُ برجلٍ قائمٍ ولا قاعدٍ ، بل تقول : لا قاعدٍ بغير واو ، كذلك يجب أن يكون هنا ، وذَكر الوجه الثاني كما تقدَّم ، وأجاز أيضاً أن يكون " تُثير " في محلِّ رفعٍ صفةً لذَلول وقد تقدَّم لك خلافٌ : هل يُوصف الوصفُ أو لا ؟ فهذه ستةُ أوجهٍ ، تلخيصها : أنها حالٌ من الضميرِ في " ذَلولٌ " أو من " بقرة " أو صفةٌ لبقرة أو لذلولٌ أو مستأنفةٌ بإِضمارِ مبتدأ أو دونَه .

قوله : { وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } الكلام في هذه كما تقدم فيما قبلها من كونِها صفةً لبقرة أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ . وقال الزمخشري : ولا الأولى للنفي يعني الداخلةَ على " ذلولٌ " والثانيةُ مزيدة/ لتوكيدِ الأولى ، لأن المعنى : لا ذلولٌ تثيرُ وتَسْقي ، على أن الفعلينِ صفتانِ لذَلول ، كأنه قيل : لا ذلولٌ مثيرةٌ وساقيةٌ " .

وقُرئ " تُسْقي " بضم التاء من أَسْقى . وإثارةُ الأرضِ تحريكُها وبَحْثُها ، ومنه { وَأَثَارُواْ الأَرْضَ } [ الروم : 9 ] أي : بالحرثِ والزراعةِ ، وفي الحديث : " أثيروا القرآن ، فإنه عِلْمُ الأولين والآخرِين " ، وفي روايةٍ ، " مَنْ أرادَ العِلمَ فَلْيُثَوِّرِ القرآن " ومُسَلَّمةٌ من سَلِمَ له كذا أي : خَلُص . و " شية " مصدرٌ وَشَيْتُ الثوبَ أَشِيْهُ وَشْياً وشِيَةً ، فحُذفت فاؤها لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ في المضارع ، ثم حُمِلَ باقي البابِ عليه ، ووزنُها : عِلة ، ومثلُها : صِلة وعِدة وزِنة ، وهي عبارةٌ عن اللمعةِ المخالفةِ للَّوْنِ ، ومنه ثَوْبٌ مَوْشِيٌّ أي منسوجٌ بلونينِ فأكثرَ ، وثور مَوْشِيُّ القوائم أي : أَبْلَقُها قال الشاعر :

من وحشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكارِعُه *** طاوِي المصيرِ كسَيْفِ الصيْقَلِ الفَرِدِ

ومنه : " الواشي " للنمَّام ، لأنه يَشي حديثَه أي : يُزَيِّنُه ويَخْلِطُه بالكذب ، وقال بعضهم : ولا يقال له واشٍ حتى يُغَيِّرَ كلامَه ويُزَيِّنَه . ويقال : ثورٌ أَشْيَهُُ ، وفرس أَبْلَقُ وكبشٌ أَخْرَجُ وتيسٌ أَبْرَقُ وغرابٌ أَبْقَعُ ، كلُّ ذلك بمعنى البُلْقَةِ ، و " شِيَةَ " اسم لا ، و " فيها " خبرها .

قوله : { الآنَ جِئْتَ } " الآن " منصوبٌ بجِئْتَ ، وهو ظرفُ زمانٍ يقتضي الحالَ ويُخَلِّصُ المضارع له عند جمهور النحويين ، وقال بعضُهم : هذا هو الغالبُ وقد جاء حيثُ لا يُمْكِنُ أن يكونَ للحالِ كقولِه : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ }

[ الجن : 9 ] { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] فلو كان يقتضي الحالَ لَما جاء مع فعل الشرط والأمرِ اللذين هما نصٌّ في الاستقبالِ ، وعَبَّر عنه هذا القائلُ بعبارةٍ توافقُ مذهبَه وهي : " الآن " لوقتٍ حُصِر جميعُه أو بعضُه " يريد بقولِه : " أو بعضُه " نحوَ : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ } وهو مبنيٌّ .

واختُلِفَ في علَّة بِنائِه ، فقال الزجاج : " لأنَّه تضمَّن معنى الإِشارة ، لأنَّ معنى أفعلُ الآن أي : هذا الوقتَ " . وقيل : لأنه أَشْبَهَ الحرفَ في لزومِ لفظٍ واحدٍ ، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُصَغَّرُ . وقيل : لأنَّ تضمَّن معنى حرفِ التعريفِ وهو الألفُ واللامُ كأمسِ ، وهذه الألفُ واللامُ زائدةٌ فيه بدليلِ بنائِه ولم يُعْهَدْ معرَّفٌ بأل إلاَّ مُعْرباً ، ولَزِمَت فيه الألفُ واللامُ كما لَزِمَت في الذي والتي وبابهما ، ويُعْزى هذا للفارسي . وهو مردودٌ بأنَّ التضمينَ اختصار ، فكيف يُخْتصر الشيءَ ، ثم يُؤْثى بمثلِ لفظِه . وهو لازمٌ للظرفيَّة ولا يَتَصَرَّفُ غالباً ، وقد وَقَع مبتدأ في قوله عليه السلام : " فهو يَهْوى في قَعْرِها الآنَ حينَ انتهى " فالآن مبتدأ وبني على الفتح لِما تقدَّم ، و " حين " خبره ، بُني لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ ، ومجروراً في قوله :

أإلى الآن لا يَبِينُ ارْعِواءُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . .

وادَّعى بعضُهم إعرابَه مستدلاًّ بقوله :

كأنَّهما مِلآْنِ لم يتَغَيَّرا *** وقد مَرَّ للدارَيْنِ من بعدنا عَصْرُ

يريد : " من الآن " فجَرَّه بالكسرة ، وهذا يَحْتمل أن يكونَ بُني على الكسر . وزعم الفراء أنه منقولٌ من فعلٍ ماضٍ ، وأن أصلَه آنَ بمعنى حانَ فَدَخَلَتْ عليه أل زائدةً واسْتُصْحِبَ بناؤُه على الفتح ، وجَعَله مثلَ قولهم : " ما رأيته مذ شَبَّ إلى دَبَّ " وقولِه عليه السلام : " وأَنْهاكم عن قيلَ وقال " ، ورُدَّ عليه بأنَّ أل لا تدخُل على المنقولِ من فعلٍ ماضٍ ، وبأنه كان ينبغي أن يجوزَ إعرابُه كنظائرِه ، وعنه قولٌ آخر أنَّ أصلَه " أوان " فحُذِفَتِ الألفُ ثم قًُلبت الواو ألفاً ، فعلى هذا ألفُه عن واو ، وقد أدخله الراغبُ في باب " أين " فتكون ألفُه عن ياء ، [ والصواب الأول ] .

وقُرئ " قالوا الآن " بتحقيق [ الهمزةِ ] من غير نَقْل ، وهي قراءةُ الجمهورِِ ، و " قالُ لان " بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها وحَذْفِ الهمزة ، وهو قياسٌ مطَّرد ، وبه قرأ نافع وحمزة باختلافٍ عنه ، و " قالو لاَن " بثبوتِ الواوِ مِنْ قالوا لأنها إنما حُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين وقد تحرَّكَتِ اللامُ لنقلِ حركةِ الهمزةِ إليها ، واعتدُّوا بذلك كما قالوا في الأحمر : " لَحْمَر " . وسيأتي تحقيقُ هذا إن شاء اللهُ تعالى في { عَاداً الأُولَى } [ النجم : 50 ] ، وحُكي وجه رابع : " قالوا ألآن " بقطعِ همزةِ الوصلِ وهو بعيدٌ .

قوله : " بالحقِّ " يجوزُ فيه وجهانِ ، أحدُهما أن تكونَ باءَ التعدية كالهمزة كأنه قيل : أَجَأْتَ الحقَّ أي : ذَكَرْتَه . الثاني : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ " جِئْتَ " أي : جِئْتَ ملتبساً بالحقِّ أو ومعك الحقُّ .

قوله { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } كادَ واسمُها وخبرُها ، والكثيرُ في خبرها تَجَرُّدُه من أَنْ ، وشَذَّ قولُه :

قد كادَ من طولِ البِلى أَنْ يَمْحَصا

عكسَ عسى ، ومعناها مقاربةُ الفعلِ ، وقد تقدَّم جملةٌ صالحةٌ من أحكامِها ، وكونُ نفيها إثباتاً وأثباتِها نفياً ، والجوابُ عن ذلك عند قوله :

{ يَكَادُ الْبَرْقُ } [ البقرة : 20 ] فَلْيُلْتَفتْ إليه .