الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (74)

قوله تعالى : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } : " أو " هذه ك " أو " في قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ } [ البقرة : 19 ] فكلُّ ما قيلَ فيه ثَمَّةَ يمكنُ القولُ به هنا ، ولمَّا قال أبو الأسود :

أُحِبُّ محمداً حُبَّاً شديداً *** وعَبَّاساً وحمزةَ أو عَلِيَّا

اعترضوا عليه في قوله " أو " التي تقتضي الشكَّ ، وقالوا له : أَشَكَكْتَ ؟ فقال : كَلاَّ ، واستدلَّ بقولِه تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ } [ سبأ : 24 ] وقال : أَوَ كان شاكَّاً مَنْ أَخْبر بهذا ؟ وإنما قَصَد رحمه الله الإِبهامَ على المخاطب . و " أشدُّ " مرفوعٌ لعطفِه على محلِّ " كالحجارة " أي : فهي مثلُ الحجارةِ أو أشدُّ . والكافُ يجوزُ أن تكونَ حرفاً فتتعلَّقَ بمحذوفٍ وأن تكونَ اسماً فلا تتعلَّقَ بشيء ، ويجوز أن تكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : أو هي أشدُّ . و " قسوة " نصبٌ على التمييزِ ؛ لأنَّ الإِبهامَ حَصَلَ في نسبةِ التفضيلِ إليها ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ للدلالةِ عليه أي : أشدُّ قسوةً من الحجارةِ .

وقُرئ " أشدَّ " بالفتح ، ووجهُها أنه عَطَفَها على " الحجارة " أي : فهي كالحجارة أو كأشدَّ منها . قال الزمخشري مُوَجِّهاً للرفعِ : " وأشدُّ معطوفٌ على الكاف : إمَّا على معنى : أو مثلُ أشدَّ فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وتَعْضُده قراءة الأعمش بنصبِ الدال عطفاً على الحجارة " . ويجوز على ما قاله أن يكونَ مجروراً بالمضافِ المحذوفِ تُرِكَ على حاله ، كقراءة : { وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةِ } [ الأنفال : 67 ] بجرِّ الآخرةِ ، أي : ثوابَ الآخرةِ ، فيحصُلُ من هذا أنَّ فتحةَ الدالِ يُحْتَمَلُ أن تكونَ للنصبِ وأن تكونَ للجرِّ . وقال الزمخشري أيضاً : " فإنْ قلت : لِمَ قيل " أشدُّ قسوةً " وفعلُ القسوةِ ممَّا يخرُج منه أفعلُ التفضيلِ وفعلُ التعجبِ ؟ يعني أنه مستكملٌ للشروطِ مِنْ كونِه ثلاثياً تاماً غيرَ لَونٍ ولا عاهةٍ متصرفاً غيرَ ملازمٍ للنفيِ ثم قال : " قلت : لكونِه أَبْيَنَ وأدلَّ على فرطِ القسوةِ ، ووجهٌ آخرُ وهو أنه لا يَقْصِدُ معنى الأقسى ، ولكنه قَصَد وصفَ القسوةِ بالشدة ، كأنه قيل : اشتدَّتْ قسوةُ الحجارةِ وقلوبُهم أشدُّ قسوةً " وهذا كلامٌ حسنٌ جداً ، إلا أنَّ كونَ القسوةِ يجوزُ بناءُ التعجبِ منها فيه نظرٌ من حيثُ إنَّها من الأمورِ الخَلْقيَّةِ أو من العيوبِ ، وكلاهما ممنوعٌ منه بناءُ البابَيْنِ . وقُرئ : قَساوة .

قوله : { لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ } اللامُ لامُ الابتداء دَخَلَت على اسم " إنَّ " ، لتقدُّمِ الخبرِ وهو { مِنَ الْحِجَارَةِ } ، وهي بمعنى الذي في محلِّ النَّصْبِ ولو لم يتقدَّم الخبرُ لم يَجُزْ دخولُ اللام على الاسم لئلا يتوالَى حرفا تأكيدٍ ، وإنْ كان الأصلُ يقتضي ذلك ، والضميرُ في " منه " يعودُ على " ما " حَمْلاً على اللفظ ، قال أبو البقاء : " ولو كان في غيرِ القرآنِ لجازَ " منها " على المعنى " قلت : هذا الذي قد قرأ به أُبي بن كعب والضحاك .

وقرأ مالك بن دينار : " يَنْفَجِرُ " من الانفجار . وقرأ قتادة : { وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ } بتخفيف إنْ من الثقيلة وأتى باللام فارقةً بينها وبين " إنْ " النافية ، وكذلك { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } وهذه القراءة تحتمل أن تكونَ " ما " فيها في محل رفع وهو المشهورُ ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ لأنَّ " إنْ " المخففة سُمع فيها الإِعمالُ والإِهمالُ ، قال تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } [ هود : 111 ] في قراءة مَنْ قرأه . وقال في موضع آخر : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } [ يس : 32 ] إلاَّ أنَّ المشهورَ الإِهمالُ . و { يَشَّقَّقُ } أصلُه : يَتَشَقَّقُ ، فأُدْغم ، وبالأصلِ قرأ الأعمشُ ، وقرأ طلحة بن مصرف : " لَمَّا " بتشديد الميم في الموضعين ، قال ابن عطية : " وهي قراءة غير متجهة " وقرأ أيضاً : " يَنْشَقُّ " بالنون ، وفاعلُه ضمير " ما " وقال أبو البقاء : " ويجوز أن يكونَ فاعلُه ضميرَ الماء لأنَّ " يَشَّقَّقُ " يجوز أن يُجْعَلَ للماء على المعنى ، فيكونَ معك فعلان ، فيعملُ الثاني منهما في الماء ، وفاعلُ الأولِ مضمرٌ/ على شريطةِ التفسيرِ ، وعند الكوفيين يَعْمَلُ الأولُ فيكون في الثاني ضميرٌ " يعني أنه من باب التنازع ، ولا بد من حَذْفِ عائدٍ من " يَشَّقَّق " على " ما " الموصولة دلَّ عليه قوله " مِنْه " والتقديرُ : وإنَّ من الحجارة لما يَشَّقَّقُ الماءُ منه فيخرجُ الماءُ منه . وقال أيضاً : " ولو قُرئ " تتفجَّر " بالتاءِ جاز " قلتُ : قال أبو حاتم يجوز " لما تتفجَّر " بالتاء لأنه أَنَّثه بتأنيثِ الأنهار ، وهذا لا يكون في تشَّقَّق يعني التأنيث . قال النحاس : " يجوز ما أنكره على المعنى ، لأنَّ المعنى : وإنَّ منها لحجارةً تَتَشَقَّقُ " يعني فيراعي به معنى " ما " فإنَّها واقعةٌ على الحجارة .

قوله : { مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } منصوبُ المحلِّ متعلقٌ ب " يَهْبِط " . و " مِنْ " للتعليل ، وقال أبو البقاء : [ " مِنْ " ] في موضع نصب بيهبط ، كما تقول : يهبط بخشيةِ الله ، فجعلَها بمعنى الباء المُعَدِّية ، وهذا فيه نظرٌ لا يَخْفَى . وخشية مصدرَ مضافٌ للمفعول تقديرُه : مِنْ أن يَخْشَى اللهَ .

وإسنادٌ الهبوطِ إليها استعارةُ ، كقوله :

لَمَّا أَتى خبرُ الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ *** سُورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ

ويجوز أن يكونَ حقيقةً على معنَى أنَّ الله خلقَ فيها قابليةً لذلك . وقيل : الضميرُ في " منها " يعودُ على القلوبِ وفيه بُعْدٌ لتنافُرِ الضمائر .

قوله { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ } قد تقدَّم في قوله : { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }

[ البقرة : 8 ] فَلْيُلْتَفَتْ إليه .

قوله : { عَمَّا تَعْمَلُونَ } بغافل ، و " ما " موصولةٌ اسميةٌ ، فلا بد من عائدٍ أي : تعملونه ، أو مصدريةٌ فلا يُحتاجُ إليه ، أي عن عملِكم ، ويجوز أن يكونَ واقعاً موقعَ المفعولِ به ، ويجوز ألاَّ يكون . وقُرِئ " يعملون " بالياءِ والتاءِ .