الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ قَالُوٓاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ لِيُحَآجُّوكُم بِهِۦ عِندَ رَبِّكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (76)

قوله تعالى : { وَإِذَا لَقُواْ } . . الآية ، قد تقدَّم نظيرُها أولَ السورةِ ، وقد تقدَّم الكلامُ على مفرداتها وإعرابها ، فأغنى ذلك من الإِعادة .

وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وجهَيْن ، أحدُهما : أن تكونَ مستأنفةً كاشفةً عن أحوال اليهودِ والمنافقين . والثاني : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ معطوفةً على الجملة الحالية قبلها وهي : " وقد كان فريقٌ " والتقدير : كيف تطمعون في إيمانِهم وحالُهم كَيْتَ وكَيْتَ ؟ وقرأ ابن السَّمَيْفَع : لاقُوا ، وهو بمعنى لَقوا ، فَاعَل بمعنى فَعِل نحو : سافر وطارَقْتُ النعل .

قوله : { بِمَا فَتَحَ اللَّهُ } متعلِّقٌ بالتحديث قبلَه ، وما موصولةٌ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ أي : فَتَحَه الله . وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً أو مصدريةً ، أي : شيءٌ فَتَحه ، فالعائدُ محذوفٌ أيضاً ، أو بفتحِ الله عليكم . وفي جَعْلِها مصدريةً إشكالٌ من حيثُ إن الضميرَ في قولِه بعد ذلك :

{ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ } عائدٌ على " ما " هذا هو الظاهرُ ، وما المصدريةُ حرفٌ لا يعودِ عليها ضميرٌ على المشهورِ خلافاً للأخفشِ وأبي بكر بن السراج ، إلا أَنْ يُتَكَلَّفَ فيُقال : الضميرُ يعودُ على المصدرِ المفهومِ من قوله : { أَتُحَدِّثُونَهُم } أو من قوله فَتَح ، أي : لِيحاجُّوكم بالتحديثِ الذي حُدِّثْتُمُوه ، أو بالفتح الذي فَتَحه الله عليكم . والجملةُ من قولِهِ : " أتُحَدِّثونهم في محلِّ نصبٍ بالقَوْل ، والفتحُ هنا معناه الحكمُ والقَضاءُ ، وقيل : الفَتَّاحُ : القاضي بلغةِ اليمن ، وقيل الإِنزالُ . وقيل : الإِعلامُ/ أو التبيينُ بمعنى أنه بَيَّنَ لكم صفة محمدٍ عليه السلام ، أو المَنُّ بمعنى ما مَنَّ عليكم به من نَصْرِكم على عَدُوِّكم ، وكلُّ هذه أقوالٌ مذكورةٌ في التفسيرِ .

قوله : { لِيُحَآجُّوكُم } هذه اللامُ تُسَمَّى لامَ كي بمعنى أنها للتعليل ، كما أنَّ " كي " كذلك ، لا بمعنى أنها تَنْصِبُ ما بعدَها بإضمار ب " كي " كما سيأتي ، وهي حرفُ جرٍّ ، وإنما دَخَلَتْ على الفعل لأنه منصوبٌ بأَنْ المصدريةِ مقدرةً بعدها ، فهو معها بتأويل المصدرِ أي للمُحاجَّةِ ، فلم تَدْخُلْ إلا على اسم لكنه غيرُ صريح . والنصبُ بأَنْ المضمرةِ كَما تقدَّم لا بكَيْ خلافاً لابن كيسان والسيرافي وإن ظَهَرَتْ بعدها نحو قولِه تعالى : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } [ الحديد : 23 ] لأن " أَنْ " هي أُمُّ البابِ ، فادِّعاءُ إضمارِها أَوْلَى مِنْ غيرِها . وقال الكوفيون : " النصبُ باللامِ نفسِها ، وأَنَّ ما يظهر بعدَها من كي وأَنْ إنما هو على سبيلِ التأكيد " ، وللاحتجاجِ موضعٌ غيرُ هذا من كتب النحو . ويجوز إضمارُ أَنْ وإظهارُها بعد هذه اللامِ إلاَّ في صورةٍ واحدةٍ وهي ما إذا وقع بعدها " لا " نحو قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] ، { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 150 ] ، وذلك لِما يَلْزَمُ من توالي لاَميْن فيثقُل اللفظُ . والمشهورُ في لغةِ العربِ كَسْرُ هذه اللامِ لأنها حرفُ جر وفيها لُغَيَّةٌ شاذَّةٌ وهي الفتح .

وهذه اللامُ متعلقةٌ بقوله : " أَتُحَدِّثُونهم " . وذهب بعضُهم إلى أنَّها متعلقةٌ ب " فَتَحَ " ، وليس بظاهرٍ ، لأنَّ المُحاجَّةِ ليست علة للفتح ، وإنما هي نَشَأَتْ عن التحديث ، اللهم إلا أَنْ يُقالَ : تَتَعَلَّقُ به على أنها لامُ العاقبة ، وهو قولٌ قيل بهِ فصارَ المعنى أنَّ عاقبةَ الفتحِ ومَآلَة صارَ إلى أَنْ حاجُّوكم ، أو تقول : إنَّ اللام لامُ العِلَّة على بابِها ، وإنَما تَعَلَّقَتْ بفَتْحِ لأنه سببٌ للتحديث ، والسَّبَبُ والمُسَبَّبُ في هذا واحدٌ . قوله : " به " الضميرُ يعودُ على " ما " من قوله : { بِمَا فَتَحَ اللَّهُ } وقد تقدَّم أنه يضعفُ القولُ بكونِها مصدريةً ، وأنه يجوز أن يعود على أحدِ المصدَرَيْنِ المفهومين من " أَتُحَدِّثُونهم " و " فتح " .

قوله : { عِنْدَ رَبِّكُمْ } ظرفٌ معمولٌ لقولِه : { لِيُحَآجُّوكُم } بمعنى لِيحاجُّوكم يومَ القيامة ، فًَكَنَى عنه بقوله : { عِنْدَ رَبِّكُمْ } ، وقيل : " عندَ " بمعنى في ، أي : ليحاجُّوكم في ربكم ، أي : فيكونون أَحَقَّ به منكم . وقيل : ثَمَّ مضَافٌ محذوفٌ أي : عند ذِكْرِ ربِّكم ، وقيل : هو معمولٌ لقولِه : { بِمَا فَتَحَ اللَّهُ } أي بما فتح اللهُ مِنْ ربكم ليحاجُّوكم ، وهو نَعْتُه عليه السلام وأَخْذُ ميثاقِهم بتصديقِه . ورجَّحه بعضُهم وقال : " هو الصحيح ، لأنَّ الاحتجاجَ عليهم هو بما كانَ في الدنيا " وفي هذا نظرٌ مِنْ جهةِ الصناعة ، وذلك أنَّ { لِيُحَآجُّوكُم } متعلقٌ بقوله : { أَتُحَدِّثُونَهُم } على الأظهرِ كما تقدَّم فيلزَمُ الفَصْلُ به بين العاملِ وهو فَتَح وبين معمولِه وهو عند ربك وذلك لا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ منهما .

قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } تقدَّم الكلامُ على نظيرَتِها . وفي هذه الجملةِ قولان : أحدُهما [ أنها ] مندرجَةٌ في حَيِّز القولِ . والثاني أنها من خطابِ الله تعالى للمؤمنين بذلك فَمَحَلُّها النصبُ على الأولِ ولا محلَّ لها على الثاني ، ومفعولُ { تَعْقِلُونَ } يجوزُ أن يكونَ مراداً ويجوزُ ألاَّ يكونَ .