قوله تعالى : { بِحَبْلٍ } : الحَبْلُ في الأصل هو السبَبُ ، وكلُّ ما وصلك إلى شيء فهو حَبْل ، وأَصلُه في الأجرام واستعمالُه في المعاني من باب المجاز ، ويجوزُ أن يكونَ حينئذٍ من باب الاستعارة ، ويجوز أن يكونَ من بابِ التمثيل ، ومن كلامِ الأنصار رضي الله عنهم : " يا رسول الله إنَّ بيننا وبين القوم حبالاً ونحن قاطعوها " يَعْنُون العهود والحِلْف . قال الأعشى :
وإذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلةً *** أَخَذَتْ من الأخرى إليكَ حِبالَها
يعني العهودَ ، قيل : والسببُ فيه أنَّ الرجلَ كان إذا سافرَ خافَ فيأخذُ من القبيلةِ عهداً إلى أخرى ، ويُعْطَى سهماً أو حبلاً يكونُ معه كالعلامةِ ، فَسُمِّي العهدُ حبلاً لذلك ، وهذا معنىً غيرُ طائلٍ ، بل سُمِّي العهدُ حبلاً للتوصُّلِ به إلى الغرض . وقال آخر :
ما زِلْتُ معتصِماً بحبلٍ منكُم *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والمرادُ بالحبل هنا القرآنُ ، وفي الحديثِ الطويل : " هو حَبْلُ الله المتين " .
وقوله : " جميعاً " حالٌ من فاعل " اعتصموا " ، و " بحبل الله " متعلِّقٌ به . قوله : " ولا تَفَرَّقوا " قرأه البزي بتشديد التاء وصلاً ، وقد تقدَّم توجيهُه في البقرة عند قولِه : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ } [ البقرة : 267 ] ، والباقوُن بتخفيفها على الحَذْفِ .
وقوله : { نِعْمَةَ اللَّهِ } مصدرٌ مضاف لفاعله إذ هو المُنْعِم ، و " عليكم " يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً بنفس " نعمة " لأنَّ هذه المادَة تتعدَّى ب " على " [ نحو : ] { لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 37 ] ويجوز أَن يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حال من " نعمة " فيتعلَّقُ بمحذوفٍِ أي : مستقرة وكائنة عليكم .
قوله : { إِذْ كُنْتُمْ } " إذ " منصوبةٌ بنعمة ظرفاً لها ، ويجوزُ أَنْ يكون متعلقاً بالاستقرارِ الذي تضمَّنه " عليكم " إذا قلنا : إنَّ " عليكم " حالٌ من النعمة ، وأمَّا إذا عَلَّقْنا " عليكم " بنعمة تَعَيَّن الوجُه الأول . وجَوَّز الحوفي أن يكونَ منصوباً باذكروا ، يعني مفعولاً به لا أنه ظرفٌ له لفسادِ المعنى ، إذ " اذكروا " مستقبلٌ ، و " إذ " ماضٍ .
قوله : { فَأَصْبَحْتُمْ } أصبحَ من أخواتِ " كان " فإذا كانَتْ ناقصة كانت مثلَ " كان " في رفعِ الاسمِ ونَصْبِ الخبر ، وإذا كانَتْ تامةً رفَعَتْ فاعلاً واستغنَتْ به ، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال ، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح تقول : " أصبحَ زيد " أي دخل في الصباح ، ومثلُها في ذلك " أمسى " ، قال تعالى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] وقوله : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ }
[ الصافات : 137 ] وفي أمثالهم : " إذا سَمِعْتُ بسُرى القَيْن فاعلَمْ أنَّه مُصبح " لأنَّ القَيْنَ وهو الحَدَّاد ربما قَلّت صناعته في أحياءِ العرب فيقول : أنا غداً مسافرٌ ليأتوه الناس بحوائجهم فيقيمُ ويتركُ السفر ، فأخرجُوه مَثَلا لمن يقول/ قولاً ويخالفه ، فالمعنى أنه مقيم في الصباح ، وتكون بمعنى " صار " عملاً ومعنى كقوله :
فَأَصْبحوا كأنَّهم ورقٌ جَفْ *** فَ فَأَلْوَتْ به الصَّبا والدَّبُورُ
أي : صاروا . " إخواناً " خبرُها ، وجَوَّزوا فيها هنا أن تكون على بابِها من دلالتِها على اتِّصاف الموصوفِ بالصفة في وقت الصباح ، وأن تكون بمعنى صار ، وأن تكون التامة ، أي : دخلتم في الصباح ، فإذا كانت ناقصةً على بابها فالأظهرُ أن يكونَ " إخواناً " خبرَها .
و " بنعمته " متعلِّقٌ ب " إخْواناً " ، لِما فيه مِنْ معنى الفعلِ أي : تآخيتم بنعمتِه ، والباءُ للسببيةِ . وجَوَّز الشيخُ أَنْ يتعلَّق بأصبحتم ، وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف ، وجوَّز غيرُه أَنْ يَتَعلَّق بمحذوف على أنه حال من فاعل " أصبحتم " أي : فأصبحتم إخواناً ملتبسين بنعمته ، أو حال من " إخواناً " لأنه في الأصل صفةٌ له . وجَوَّزوا أَنْ يكونَ " بنعمته " هو الخبرَ ، و " إخواناً " حالٌ ، والباءُ بمعنى الظرفية ، وإذا كانت بمعنى " صار " جَرَى فيها ما تقدَّم من جميع هذه الأوجه ، وإذا كانت تامةً فإخواناً حالٌ ، و " بنعمتِه " فيه ما تقدَّم من الأوجهُ خلا الخبريةِ .
قال ابن عطية : " فأصبحتم " عبارةٌ عن الاستمرار ، وإن كانت اللفظة مخصوصةً بوقت ، وإنما خُصَّتْ هذه اللفظةُ بهذا المعنى من حيث هي مبدأُ النهار ، وفيها مبدأُ الأعمالِ ، فالحالُ التي يُحِسُّها المرءُ مِنْ نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومُه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع :
أَصْبَحْتُ لا أَحْمِلُ السِّلاح ولا *** أَمْلِكُ رأسَ البعيرِ إنْ نفرا
قال الشيخ : " وهذا الذي ذكره مِنْ أَنَّ " أصبح " للاستمرار ، وعَلَّله بما ذكره لم أَرَ أحداً من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تستعمل بالوجهين اللذيْنِ ذكرناهما " قلت : وهذا الذي ذكره ابنُ عطية معنىً حسنٌ ، وإذا لم ينصَّ عليه النحويون لا يُدْفَعُ ، لأَنَّ النحاةَ غالِباً إنما يتحدثون بِما يتعلَّقُ بالألفاظ ، وأمَّا المعاني المفهومةُ من فحوى الكلامِ فلا حاجةَ لهم بالكلامِ عليها غالباً .
والإِخْوان : جمع أَخٍ ، وإخوة اسمُ جمعٍ عند سيبويه وعند غيرِه هي جمع . وقال بعضُهم : " إنَّ الأَخَ في النسَب يُجْمع على " إخوة " ، وفي الدِّين على " إخْوان " ، هذا أَغلبُ استعمالِهم ، قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }
[ الحجرات : 10 ] ، ونفسُ هذه الآية تؤيد ما قاله لأن المراد هنا ليس إخوة النسب إنما المرادُ إخوةُ الدين والصداقة ، قال أبو حاتم : " ثم قال أهلُ البصرة : الإِخوةُ في النسبِ والإِخْوان في الصداقة " قال : " وهذا غَلَط ، يقال للأصدقاء والأنسباء إخوة وإخوان ، قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } لم يَعْنِ النسبَ ، وقال تعالى : { أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ } [ النور : 61 ] وهذا في النسبِ " قلتُ : رَدُّ أبي حاتم يتَّجِهُ على هذا النقلِ المطلقِ ، ولا يَرِدُ على النقلِ الأول لأنهم قَيَّدوه بالأغلبِ في الاستعمالِ .
قوله : { عَلَى شَفَا } شفا الشيء : طرفُه وحَرْفُه ، وهو مقصورٌ من ذواتِ الواو ، يُثَنَّى بالواو نحو : شَفَوَيْن ، ويُكتب بالألف ، ويُجْمع على أَشْفاء ، ويُستعمل مضافاً إلى أعلى الشيء وإلى أسفله ، فمِن الأول : { شَفَا جُرُفٍ }
[ التوبة : 109 ] ومن الثاني هذه الآية ، وأشفى على كذا أي : قَارَبه ، ومنه أَشْفى المريضُ على الموت ، قال يعقوب : " يُقال للرجلِ عند موتهِ ، وللقمر عند محاقِه ، وللشمسِ عن غروبها : " ما بَقي منه أو منها إلا شفا " أي : إلا قليلٌ " . وقال بعضهم : يُقال لِما بين الليلِ والنهارِ عند غروبِ الشمسِ إذا غاب بعضُها : شفا ، وأنشد :
أَدْرَكْتُه بلا شَفا أو بشَفا *** والشمسُ قد كادَتْ تكونُ دَنِفا
وقال الراغب : " والشفاءُ من المرضِ موافاةُ شَفا السلامة ، وصار اسماً للبُرء ، والشَّفا مذكَّرٌ " .
وأمَّا عَوْدُ الضميرِ في " منها " ففيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه عائدٌ على " حفرة " .
والثاني : أنه عائدٌ على " النار " قال الطبري : " إنَّ بعضَ الناسِ يُعيده على الشَّفا ، وأنَّثَ مِنْ حيثُ كان الشَّفا مضافاً إلى مؤنث ، كما قال جرير :
أرى مَرَّ السنين أَخَذْنَ مني *** كما أخَذَ السِّرارُ مِن الهلال
قال ابن عطية : " وليس الأمر كما ذكروا ، لأنه لا يُحتاج في الآية إلى مثل هذه الصناعة ، إلا لو لم نجد للضمير معاداً إلا الشفا ، أَما ومَعَنا لفظٌ مؤنثٌ يعودُ الضميرُ عليه/ ويَعْضُده المعنى المُتَكَلَّمُ فيه فلا يُحتاج إلى تلك الصناعةِ " قال الشيخ : " وأقول : لا يَحْسُنُ عَوْدُه إلاَّ على الشَّفا ؛ لأنَّ كينونتَهم على الشَّفا هو أحدُ جُزْأَي الإِسناد ، فالضميرُ لا يعودُ إلا عليه ، وأمَّا ذِكْرُ الحفرةِ فإنما جاءَتْ على سبيل الإِضافةِ إليها ، ألا ترى أنَّك إذا قلت : " كان زيدٌ غلامَ جعفر " لم يكن جعفر مُحَدَّثاً عنه ، وليس أحدَ جُزْأَي الإِسناد ، وكذا لو قلت : " زيد ضربَ غلامَ هندٍ " لم تُحَدِّث عن هندٍ بشيءٍ ، وإنَّما ذكرْتَ جعفراً وهنداً مخصصاً للمُحَدَّث عنه ، وأمَّا ذِكْرُ النارِ فإنما ذُكِر لتخصيصِ الحفرة ، وليست أيضاً أحدَ جُزْأَي الإِسناد ، وليست أيضاً مُحَدَّثاً عنها ، فالإِنقاذ من الشفا أبلغُ من الإِنقاذِ من الحفرة ومِن النارِ ، لأنَّ الإِنقاذَ من الشفا [ يستلزم الإِنقاذَ من الحفرة ومن النار ، والإِنقاذَ منهما لا يستلزِمُ الإِنقاذَ من الشفا ] فعودُه على الشَّفا هو الظاهرُ من حيث اللفظُ ومن حيث المعنى " .
وقال الزجاج : " وقولُه : " منها " الكنايةُ راجعةٌ إلى النار إلى الشفا ؛ لأنَّ القصدَ الإِنجاءُ من النار لا مِنْ شَفا الحفرة " . وقال غيرُه : " يعودُ على الحفرة ، فإذا أنقذهم اللهُ من الحفرةِ فقد أَنْقذهم من شَفاها لأنَّ شَفاها منها " .
قال الواحدي : " على أنه يجوزُ أَنْ يَذْكُرَ المضافُ والمضافُ إليه ثم تعودَ الكنايةُ إلى المضافِ إليه دونَ المضاف ، كقول جرير : " أرى مرَّ السنين أخَذْنَ " البيت . فَذَكَر مَرَّ السنين ، ثم أخبر عن السنين ، وكذلك قول العَجَّاج :
طولُ الليالي أَسْرَعَتْ في نَقْضِِي *** طَوَيْنَ طولي وَطَوَيْنَ عَرْضي
قال : " وهذا إذا كان المضافُ من جنسِ المضافِ إليه ، فإنَّ مَرَّ السنين هو السنون ، وكذلك شَفا الحفرة من الحُفْرَة ، فَذَكَر الشَّفا وعادَتِ الكنايةُ إلى الحفرةِ " قلت : وهذان القولان نصٌّ في ردِّ ما قاله الشيخ ، إلاَّ أنَّ المعنى الذي ذَكَره أَوْلَى ، لأنه إذا أنقذَهم من طَرَفِ الحفرة فهو أبلغُ مِنْ إنقاذِهم من الحفرةِ ، وما ذكره من الصناعةِ أيضاً واضحٌ .
والإِنقاذُ : التخليصُ والتنحية ، قال الأزهري : " يقال أَنْقَذْتُه ونَقَذْتُه واستنقَذْتُه وتَنَقَّذْتُه بمعنىً ، ويقال : " فرسٌ نقيذٌ " إذا كان مأخوذاً من قومٍ آخرين لأنه استُنْقِذَ منهم ، والحُفْرة : فُعْلَة بمعنى مَفْعُولة كغُرْفَة بمعنى مَغْروفة .
وقوله : { كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ } نعتٌ لمصدرٍ محذوف أو حالٌ من ضميره أي : يبيِّن لكم تبييناً مثلَ تبيينه لكم الآياتِ الواضحةَ . وقوله : { مِّنَ النَّارِ } صفة لحفرة فيتعلَّقُ بمحذوفٍ .