الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

قوله تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ } في العاملِ في هذا الظرفِ وجوهٌ ، أحدها : أنه الاستقرار الذي تضمَّنه " لهم " والتقديرُ : وأولئك استقر لهم عذابٌ يومَ تبيضُّ . وقيل : العامل فيه مضمر يَدُلُّ عليه الجملة السابقة تقديرُه : يُعََّذبون يومَ تبيضُّ وجوهٌ . وقيل : العاملُ فيه " عظيم " وضَعُف هذه بأنه يلزمُ تقييدُ عِظَمِه بهذا اليوم . وهذا التضعيفُ ضعيفٌ ؛ لأنه إذا عَظُم في هذه اليومِ ففي غيره أَوْلى ، وأيضاً فإنه مسكوتٌ عنه فيما عدا هذا اليوم . وقيل : العاملُ " عذاب " . وهذا ممتنعٌ ؛ لأن المصدر الموصوفَ لاَ يَعْمَلُ [ بعدَ ] وَصْفِه .

وقرأ يحيى بن وثاب وأبو نُهَيْك وأبو رزين العقيلي : " تِبْيَضُّ وتِسْوَدُّ " بكسر التاء وهي لغةُ تميم ، وقرأ الحسن والزهري وابن محيصنِ وأبو الجوزاء : " تَبياضُّ وتَسوادُّ " بألف فيهما ، وهي أبلغ فإنَّ " ابياضَّ " أدلُّ على اتصافِ الشيء بالبياضِ من ابيضَّ ، ويجوز كسرُ حرفِ المضارعة أيضاً مع/ الألفِ ، إلا أنِّي لا أَنْقُلُه قراءةً لأحد .

قوله : { أَكْفَرْتُمْ } هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بقولٍ مضمر ، وذلك القولُ المضمرُ مع فاءٍ مضمرةٍ أيضاً هو جوابُ أمّا ، وحَذْفُ الفاءِ مع القول مُطَّردٌ ، وذلك أنَّ القولَ يُضمر كثيراً كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ } [ الزمر : 3 ] { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } [ البقرة : 127 ] وأمَّا حذْفُها دونَ إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورةٍ كقوله :

فأمَّا القتالُ لا قِتالَ لديكُمُ *** ولكنَّ سيراً في عِراضِ المواكبِ

أي : فلا قتالَ .

وقال صاحب " أسرار التنزيل " : " بل قد اعتُرِض على النحاة في قولهم : " لَمَّا حُذِف " يُقال " حُذِفت الفاءُ " بقولِه تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ } [ الجاثية : 31 ] فَحَذَف " يُقال " ولم يَحْذِفِ الفاء ، فلمَّا بَطَل هذا تعيَّن أن يكونَ الجوابُ في قوله : { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } فوقعَ ذلك جواباً له ، ولقولِهِ : { أَكَفَرْتُم } ، ومِنْ نَظْمِ العربِ إذا ذَكَروا حرفاً يقتضي جواباً له أَنْ يَكْتَفُوا عن جوابهِ حتى يَذْكُروا حرفاً آخَر يقتضي جَواباً ، ثم يَجْعَلُون له جواباً واحداً كما في قوله تعالى :

{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

[ البقرة : 38 ] ، فقوله : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } جوابٌ للشرطين معاً ، وليس " أفلم " جوابَ " أمَّا " بل الفاءُ عاطفةٌ على مقدَّرٍ ، والتقدير : أأهملتكم فلم أتلُ عليكم آياتي " .

قال الشيخ : " وهو كلامُ أديبٍ لا كلامُ نحوي ، أمَّا قولُه : " قد اعتُرِض على النحاة " فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراضِ أنه اعتراضٌ على جميع النحاة ، لأنه ما من نحوي إلاَّ ويَخْرِّج الآيةَ على إضمارِ فيقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب : وهو أن يكون في الكلام شيءٌ مقدرٌ لا يَسْتَغني المعنى عنه ، فالقولُ بخلافِه مُخالِفٌ للإِجماع فلا التفاتَ إليه .

فأمَّا ما اعترض به من قوله : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي } وأنه قَدَّروه : فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فَحَذَف " فيقال " ولم يَحْذِف الفاءَ فَدَلَّ على بُطْلان هذه التقدير " فليس بصحيحٍ ، بل هذه الفاءُ التي بعد الهمزة في " أفلم " ليست فاءَ " فيقال " التي هي جوابُ " أمَّا " حتى يُقَالَ حَذَف " يقال " وبقيت الفاءُ ، بل الفاءُ التي هي جواب " أمّا " و " يقال " بعدها محذوفٌ ، وفاء " أفلم " تحتمل وجهين أحدهما : أن تكون زائدة ، وقد أنشد النحويون على زيادةِ الفاء قولَ الشاعر :

يموتُ أُناسُ أو يَشيبُ فتاهُمُ *** ويَحْدُثُ ناسٌ والصغيرُ فكيبُرُ

أي : والصغيرُ يَكْبُرُ ، وقولَ الآخر :

لَمَّا اتَّقى بيدٍ عظيمٍ جِرْمُها *** فَتركْتُ ضاحِي كَفِّه يَتَذَبْذَبُ

أي : تركت ، وقال زهير :

أراني إذا ما بِتُّ بِتُّ على هوى *** فَثُمَّ إذا أَمْسَيْتُ أَمْسَيْتُ غادِيا

يريد : ثم إذا ، وقال الأخفش : " وزعموا أنهم يقولون : " أخوك فوجَد " يريدون : أخوك وجَدَ " . والوجه الثاني : أن تكونَ الفاءُ تفسيريةً . والتقدير : " فيقالُ لهم ما يَسُوْءُهم فألم تكن آياتي " ثم اعتُنِي بحرف الاستفهام فقُدِّم على الفاءِ التفسيرية ، فَقُدِّم كما تَقَدَّم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله :

{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ } [ يوسف : 109 ] وهذا على رأي مَنْ يُثْبِتُ أنَّ الفاءَ تفسيرية نحو : " توضَّأ زيدٌ فَغَسَل وجهَه ويديه إلى آخر أفعالِ الوضوء " فالفاءُ هنا ليسَتْ مُرَتِّبةً وإنَّما هي مفسِّرةٌ للوضوءِ ، كذلك تكونُ في { أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ } مفسرةً للقولِ الذي يَسُوْءُهم .

وقولُ هذا الرجلِ : " فَلَمَّا بَطَلَ هذا تعيَّن أن يكون الجوابُ : فذوقوا " أي تعيَّن بطلانُ حَذْف ما قدَّره النحويون من قوله " فيقال لهم " لوجودِ هذه الفاء في " أفلم تكن " وقد بيَّنَّا أن ذلك التقدير لم يبطل وأنه سواء في الآيتين ، وإذا كان كذلك فجواب " أمَّا " هو : " فيقال " في الموضعين ومعنى الكلام عليه . وأمْا تقديره : " أأهملتكم فلم تكن آياتي تُتْلَى " فهذه بدعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشري يُقَدِّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يَصِح عطفُ ما بعدها عليه ، ولا يَعْتقد أنَّ الفاء والواو وثم إذا دَخَلَتْ عليها الهمزةُ أَصلُهُنَّ التقديمُ على الهمزة ، لكن اعتُنِيَ بالاستفهامِ فَقُدِّم على حرف العطف ، كما ذهب إليه سيبويه وغيرُه من النحويين . وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة/ في ذلك ، وبُطْلانُ قولِه الأول مذكورٌ في النحو ، وقد تقدم في هذا الكتاب حكايةُ مذهبِ الجماعة في ذلك ، وعلى تقدير قول هذا الرجل " أهملتكم " فلا بد من إضمارِ القولِ وتقديرِه : فيقال أأهملتكم ، لأنَّ هذا المقدَّرَ هو خبر المبتدأ ، والفاءُ جوابُ أمَّا ، وهو الذي يدل عليه الكلامُ ويقتضيه ضرورةً ، وقولُ هذا الرجل : " فوقع ذلك جواباً له ولقولِهِ : أكفرتم " يعني أنَّ " فذوقوا العذاب " جوابٌ ل " أمَّا " ولقولِهِ " أكفرتم " والاستفهامُ هنا لا جوابَ له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإِرذال بهم .

وأمَّا قولُ هذا الرجل : " ومِنْ نظم العرب إلى آخره " فليس كلامُ العرب على ما زعم بل يُجْعل لكلٍّ جوابٌ ، إن لا يكن ظاهراً فمقدرٌ ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً . وأما دعواه ذلك في قوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } الآية وزعمُه أنَّ قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } جوابٌ للشرطين فقولٌ رُوِيَ عن الكسائي ، وزعم بعضُ الناسِ أنَّ جوابَ الشرط الأول محذوفٌ تقديرُه : فاتبعوه ، والصحيح أنَّ الشرط الثاني وجوابَه جوابُ الشرط الأول ، وتقدَّمت هذه الأقوالُ الثلاثة عند قوله تعالى { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } انتهى .

وقوله : { أَكْفَرْتُمْ } الهمزةُ فيه للإِنكارِ عليهم والتوبيخِ لهم والتعجيب من حالهم ، وفي قوله : { أَكْفَرْتُمْ } نوعٌ من الالتفاتِ وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوينِ الخطاب ، وذلك أنَّ قولَه : { فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ } في حكم الغيبة ، وقولُه بعد ذلك : { أَكْفَرْتُمْ } خطابُ مواجهة .