الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّـٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (67)

وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى " قَدَّروا " بتشديد الدالِ ، " حَقَّ قَدَره " بفتح الدال . وافقهم الأعمشُ على فتح الدالِ مِنْ " قَدَره " .

قوله : { وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال أي : ما عَظَّموه حَقّ تعظيمِه والحالُ أنه موصوفٌ بهذه القدرةِ الباهرةِ ، كقولِه : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } [ البقرة : 28 ] ؟ و " جميعاً " حالٌ وهي دالَّةٌ على أن المرادَ بالأرض الأَرَضُون ، ولأنَّ الموضِعَ موضِعُ تَفْخيمٍ ، ولِعَطْفِ الجمعِ عليها . والعاملُ في هذه الحالِ ما دَلَّ عليه قَبْضَتُه . ولا يجوز أَنْ يعملَ فيها " قبضَتُه " سواءً جَعَلْته مصدراً - لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمُوله - أم مراداً به المقدارُ . قال الزمخشري : " ومع القصدِ إلى الجمع - يعني في الأرض - وأنَّه أُريد به الجمعُ وتأكيده بالجميعِ أتبعَ الجمعَ مؤكِّدَه قبل مجيْءِ الخبرِ ليُعْلَمَ أولَ الأمرِ أنَّ الخبرَ الذي يَرِدُ لا يقعُ عن أرضٍ واحدة ولكن عن الأراضي كلِّها " . وقال أبو البقاء : " وجميعاً حالٌ من الأرض ، والتقدير : إذا كانَتْ مجتمعةً قبضَتُه أي : مقبوضه ، فالعامل في " إذا " المصدرُ ، لأنه بمعنى المفعولِ . وقال أبو علي في " الحجة " : التقدير : ذاتُ قبضَتِه . وقد رُدَّ عليه : بأنَّ المضافَ إليه لا يَعْمَلُ فيما قبلَه ، وهذا لا يَصِحُّ لأنه الآن غيرُ مضافٍ إليه ، وبعد حَذْفِ المضافِ لا يَبْقى حكمُه " انتهى . وهو كلامٌ فيه إشكالٌ ؛ إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ العامل في " إذا " التي لم يُلْفَظْ بها .

وقوله : " قَبْضَتُه " إنْ قَدَّرْنا مُضافاً كما قال الفارسي أي : ذاتُ قبضَتِه لم يكن فيه وقوعُ المصدرِ مَوْقِعَ مفعولٍ ، وإنْ لم يُقَدَّرْ ذلك احتمل أَنْ يكونَ المصدرُ واقعاً موقعَه ، وحينئذٍ يُقال : كيف أنَّثَ المصدرَ الواقعَ موقعَ مفعولٍ وهو غيرُ جائزٍ ؟ لا يُقال : " حُلَّة نَسْجة اليمن " بل نَسْجُ اليمن أي : منسوجته . والجواب : أن الممتنعَ دخولُ التاءِ الدالةِ على التحديد ، وهذه لمجرد التأنيثِ . كذا أُجيب ، وليس بذاك ، فإن المعنى على التحديدِ لأنه أَبْلَغُ في القدرةِ . واحتمل أَنْ يكونَ أُريد بالمصدر مِقْدارُ ذلك .

والقَبْضَةُ بالفتحِ : المرَّةُ ، وبالضم اسمٌ للمقبوضِ كالغَرْفة والغُرْفَة . والعامَّةُ على رفعِ " قَبْضَتُه " ، والحسنُ بنصبها . وخَرَّجها ابنُ خالويه وجماعةٌ على النصبِ على الظرفيةِ ، أي : في قبضته . وقد رُدَّ هذا : بأنها ظرفٌ مختصُّ فلا بُدَّ مِنْ وجود " في " وهذا هو رأيُ البصريين . وأمَّا الكوفيون فهو جائزٌ عندهم ؛ إذ يُجيزون : " زيد دارَك " بالنصب أي : في دارك . وقال الزمخشري : " جعلها ظرفاً تشبيهاً للمؤقت بالمبهم " فوافق الكوفيين . والعامَّةُ على رَفْعِ " مَطْوياتٌ " خبراً ، و " بيمينِه " فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه متعلقٌ ب " مَطْوِيَّات " .

الثاني : أنه حالٌ من الضمير في " مَطْوِيَّات " . الثالث : أنه خبرٌ ثانٍ ، وعيسى والجحدري نصباها حالاً . واستدلَّ بها الأخفشُ على جوازِ تقدُّم الحالِ إذا كان العاملُ فيها حرفَ جَرّ نحو : " زيدٌ قائماً في الدار " . وهذه لا حُجَّةَ فيها لإِمكان تَخْريجِها على وجهين ، أحدهما - وهو الأظهرُ - أَنْ تكونَ " السماوات " نَسَقاً على " الأرض " ، ويكون قد أَخْبر عن الأَرَضين والسماواتِ بأنَّ الجميعَ قبضَتُه ، وتكون " مَطْوِيَّاتٍ " حالاً من " السماوات " كما كان " جميعاً " حالاً من " الأرض " ، و " بيمينه " متعلقٌ بمطويَّات . والثاني : أن يكون " مطويَّات " منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، و " بيمينه " الخبرُ ، و " مَطْويَّات " وعاملُه جملةٌ معترضةٌ ، وهو ضعيفٌ .