الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ } : " امرأةٌ " فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ واجبِ الإِضمار ، وهذه من باب الاشتغال ، ولا يجوزُ رفعُها بالابتداء لأنَّ أداةَ الشرطِ لا يليها إلا الفعلُ عند جمهور البصريين خلافاً للأخفش والكوفيين ، والتقديرُ : " وإنْ خافت امرأة خافت " ونحوهُ : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } [ التوبة : 6 ] . واستدلَّ البصريون على مذهبهم بأن الفعل قد جاء مجزوماً بعد الاسم الواقع أداة الشرط في قول عدي :

ومتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو *** هُ وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي

و { مِنْ بعلها } يجوزُ أن يتلعَّق ب " خافت " وهو الظاهر ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " نُشوزاً " إذ هو الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها تعذَّر جَعْلُه صفةً فنُصِب حالاً . و " فلا " جوابُ الشرط .

قوله : { أَن يُصْلِحَا } قرأ الكوفيون : / " يُصْلِحا " من أصلح ، وباقي السبعة " يَصَّالحا " بتشديد الصاد بعدها ألف ، وقرأ عثمان البتي والجحدري : " يَصَّلِحا " بتشديد الصاد من غير ألف ، وعبيدة السلماني : " يُصالِحا " بضمِّ الياءِ وتخفيفِ الصادِ وبعدَها ألفٌ من المفاعلة ، وابن مسعود والأعمش : " أن اصَّالحا " فأمّا قراءةُ الكوفيين فواضحةٌ ، وقراءةُ باقي السبعة أصلُهَا " يتصالحا " فأُريد الإِدغام تخفيفاً فَأُبْدِلت التاءُ صاداً وأُدْغِمت ، وأمَّا قراءةُ عثمان فأصلُها : " يَصْطَلِحا " فَخُفِّفَ بإبدالِ الطاء المبدلةِ من تاءِ الافتعال صاداً وإدغامهما فيما بعدها . وقال أبو البقاء : " وأصلُه : : " يَصْتَلِحا " فأُبْدِلت التاء صاداً وأُدْغِمت فيها الأولى " وهذا ليس بجيدٍ ، لأنَّ تاءً الافتعال يجبُ قَلْبُها طاءً بعد الأحرف الأربعة كما تقدَّم تحقيقُه في البقرة ، فلا حاجة إلى تقديرها تاءً ، لأنه لو لُفِظ بالفعلِ مظهراً لم يُلْفظ فيه بالتاء إلا بياناً لأصلِهِ . وأمَّا قراءةُ عبيدة فواضحةٌ لأنها من المصالحة . وأما قراءة " يصطلحا " فأوضحُ . ولم يُخْتلف في " صُلْحاً " مع اختلافِهم في فعلِه .

وفي نصبِه أوجهٌ : فإنه على قراءة الكوفيين يَحْتمل أن يكونَ مصدراً ، وناصبُه : إمَّا الفعلُ المتقدمُ وهو مصدرٌ على حذف الزوائد ، وبعضُهم يعبِّر عنه بأنه اسمُ مصدرٍ كالعطاءِ والنبات ، وإمَّا فعلٌ مقدرٌ أي : فيُصْلِحُ حالهما صلحاً . وفي المفعولِ على هذين التقديرين وجهان ، أحدُهما : أنه " بينهما " اتُسِّع في الظرف فجُعِل مفعولاً به . والثاني : أنه محذوف " وبينهما " ظرفٌ أوحالٌ مِنْ " صلحا " فإنه صفةٌ له في الأصل . ويُحْتمل أن يكونَ نصبُ " صلحاً " على المفعول به إن جعلته اسماً للشيء المصطلح عليه كالعَطاء بمعنى المُعْطى ، والنبات بمعنى المُنْبَت . وأمَّا على بقيةِ القراءات فيجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً على أحدِ التقديرين المتقدمين : أعني كونَه اسمَ المصدرِ ، أو كونَه على حَذْفِ الزوائد ، فيكون واقعاً موقعَ " تصالحا أو اصطلاحاً أو مصالحةً " حَسْبَ القراءات المتقدمة ، ويجوزُ أَنْ يكون منصوباً على إسقاطِ حرفِ الجرِ أي : بصلح أي بشيء يقعُ بسببِ المصالحة ، إذا جَعَلْناه اسماً للشيء المصطلح عليه .

والحاصلُ أنه من بقية القراءات ينتفي عنه وجهُ المفعولِ به المذكورِ في قراءة الكوفيين ، وتبقى الأوجهُ الباقيةُ جائزةً في سائر القراءات .

قوله : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة قال الزمخشري فيها وفي التي بعدها : " إنهما اعتراضٌ " ولم يبيِّنْ ذلك ، وكأنه يريد أن قولَه : " وإنْ يَتفَرَّقا " معطوفٌ على قوله : " فلا جناح " فجاءت الجملتان بينهما اعتراضاً ، هكذا قال الشيخ وفيه نظر ، فإن بعدهما جملاً أُخَرَ فكان ينبغي أن يقول الزمخشري في الجميع : إنها اعتراض ، ولا يخص : " والصلح خير " " وأُحْضِرَت الأنفسُ " بذلك ، وإنما يريد الزمخشري بذلك الاعتراضَ بين قوله : { وَإِنِ امْرَأَةٌ } وقوله : { وَإِن تُحْسِنُواْ } فإنهما شرطان متعاطفان ، ويَدُلُّ عليه تفسيرُه له بما يفيد هذا المعنى فإنه قال : " وإن تحسنوا بالإِقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن وتتقوا النشوزَ والإِعراضَ " انتهى . والألفُ واللام في " الصلح " يجوزُ أن تكونَ للجنس وأن تكونَ للعهد لتقدُّمِ ذكره نحو : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ }

[ المزمل : 16 ] . و " خير " يُحْتمل أن تكون للتفضيل على بابها والمفضَّلُ عليه محذوفٌ فقيل : تقديرُه : من النشوز والإِعراض ، وقيل : خيرٌ من الفرقة ، والتقدير الأولُ أَوْلى للدلالة اللفظية ، ويُحْتمل أن تكون صفةً مجردةً أي : والصلحُ خيرٌ من الخيور ، كما أنَّ الخصومةَ شرُّ من الشرور .

قوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ } " حَضَر " يتعدى إلى مفعول ، واكتسب بالهمزة مفعولاً ثانياً ، فلمَّا بُني للمفعول قامَ أحدُهما مقامَ الفاعل فانتصبَ الآخرُ . والقائمُ مقامَ الفاعلِ هنا يَحْتمل وجهين أظهرهما - وهو المشهورُ مِنْ مذاهب النحاة - أنه الأول وهو " الأنفس " فإنه الفاعل في الأصل ، إذ الأصل : " حضرت الأنفسُ الشحَّ " والثاني : أنه المفعول الثاني ، والأصل : وحضر الشحُّ الأنفسَ ، ثم أحضر اللَّهُ الشحَّ الأنفسَ ، فلما بُني الفعل للمفعول أٌقيم الثاني - وهو الأنفسُ- مقامَ الفاعل ، فأُخِّر الأول وبقي منصوباً ، وعلى هذا يجوز أن يقال : " أُعْطِي درهمٌ زيداً " و " كُسِي جبةً عمراً " والعكس هو المشهورُ كما تقدَّم ، وكلامُ الزمخشري يَحْتمل كونَ الثاني هو القائمَ مقامَ الفاعلِ فإنه قال : " ومعنى إحضارِ الأنفس الشحَّ أنَّ الشح جُعِل حاضراً لها لا يَغيب عنها أبداً ولا ينفك " يعني أنها مطبوعةٌ عليه ، فأُسْنِدَ الحضورُ إلى الشح كما ترى ، ويحتمل أنه جَعَله من باب القلب فنسَب الحضورَ إلى الشحِّ وهو في الحقيقة منسوب إلى الأنفس . وقرأ العدوي : " الشِحَّ " بكسر الشين وهي لغة . والشُّحُّ : البخل مع حرص فهو أخص من البخل .