قوله تعالى : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ } : الجمهورُ على فتح " أَنَّ " والأصل : بأني ، فيجيء فيها المذهبان . وقرأ أُبَيّ : " بأني " على هذا الأصل . وقرأ عيسى بن عمر بالكسرِ وفيه وجهان ، أحدهما : أنه على إضمارِ القول أي : وقال إني . والثاني : أنه على الحكاية ب " استجاب " لأن فيه معنى القول ، وهو رأي الكوفيين .
و " استجاب " بمعنى أجاب ، ويتعدَّى بنفسه وباللام ، وتقدَّم تحقيق ذلك في قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي } [ البقرة : 186 ] . ونقل تاج القُرَّاء أن " أجاب " عام ، و " استجاب " خاص في حصول المطلوب .
والجمهورُ : " أُضيع " من أضاع ، وقرىء بالتشديد والتضعيف ، والهمزةُ فيه للنقل كقوله :
كمُرْضِعَة أولادَ أُخرى وضَيَّعَتْ *** بني بَطْنِها ، هذا الضلالُ عن القصدِ
قوله : " منكم " في موضعِ جر صفةً ل " عامل " أي كائنٍ منكم .
وأمَّا " مِنْ ذَكَرٍ " ففيه خمسة أوجه ، أحدُها : أنها لبيان الجنس ، بَيَّنَ جنس العامل ، والتقدير : الذي هو ذكر أو أنثى ، وإن كان بعضُهم قد اشترط في البيانية أن تدخل على مُعَرَّف بلام الجنس ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك . الثاني : أنها زائدة لتقدُّم النفي في الكلام ، وعلى هذا فيكون " مِنْ ذَكَر " بدلاً من نفسِ " عامل " كأنه قيل : عاملٍ ذَكَرٍ أو أنثى ، ولكنْ فيه نظرٌ من حيث إنَّ البدلَ لا يُزاد فيه " مِنْ " . الثالث : أنها متعلقة بمحذوف ؛ لأنها حالٌ من الضمير المستكنِّ في " منكم " ، لأنه لَمَّا وقع صفة تَحَمَّل ضميراً ، والعاملُ في الحالِ العاملُ في " منكم " أي : عاملٍ كائن منكم كائناً من ذكر . الرابع : أَنْ يكونَ " مِنْ ذكرٍ " بدلاً مِنْ " منكم " ، قال أبو البقاء " وهو بدلُ الشيء من الشيء وهما لعينٍ واحدةٍ " يعني فيكونُ بدلاً تفصيلياً بإعادةِ العاملِ كقوله : { لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ } [ الأعراف : 75 ] { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] . وفيه إشكالٌ من وجهين ، أحدهما : أنه بدلٌ ظاهرٍ من حاضر في بدلِ كلٍّ من كل وهو لا يجوزُ إلا عند الأخفش . وقَيَّد بعضُهم جوازَه بأَنْ يفيدَ إحاطةَ كقوله :
فما بَرِحَتْ أقدامُنا في مَقامِنا *** ثلاثتُنا حتى أُزيروا المنائيا
قوله تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } [ المائدة : 114 ] فلمَّا أفادَ الإِحاطةَ والتأكيدَ جاز . واستدلَّ الأخفشُ بقوله :
بكمْ قريشٍ كُفِينا كلَّ مُعْضِلَةٍ *** وأمَّ نهَجَ الهدى مَنْ كان ضِلِّيلا
وشَوْهاءَ تَعْدُو بي إلى صارخِ الوغَى *** بمُسْتَلْئِمٍ مثلِ الفَنيق المُدَجَّل
ف " قريش " بدلٌ من " كم " ، و " بُمْستلئم " بدل من " بي " بإعادة حرفِ الجرِّ ، وليس ثَمَّ لا إحاطةٌ ولا تأكيدٌ ، فمذهبه يمشي على رأيِ الأخفشِ دونَ الجمهور .
الثاني : أنَّ البدل التفصيلي لا يكون ب " أو " ، وإنما يكون بالواو لأنها للجمع كقوله :
وكنت كذي رِجْلَيْن رِجْلٍ صحيحةٍ *** ورِجْلٍ رَمَى منها الزمانُ فَشَلَّتِ
وقد يُمكن أن يجابَ عنه بأن " أو " قد تأتي بمعنى الواو كقوله :
قومٌ إذا سمعوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ *** ما بينَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ
ف " أو " بمعنى الواو ، لأنَّ " بين " لا تَدْخُل إلا على متعدد ، وكذلك هنا لَمَّا كان " عاملٍ " عامًّاً أُبدل منه على سبيل التوكيد ، وعُطِف على أحد الجزأين ما لا بد منه ، لأنه لا يؤكَّد العمومُ إلا بعموم . الخامس : أن يكون " مِنْ ذَكرٍ " صفةً " ثانية " ل " عامل " قَصَد بها التوضيحَ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ كالتي قبلها .
قوله : { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } مبتدأ وخبرٌ ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنَّ هذه الجملة استئنافيةٌ جيء بها لتبيين شِرْكَةِ النساء مع الرجال في الثواب الذي وَعَد الله به عبادَه العاملين ، لأنه يُروى في الأسباب أنَّ أم سلمة رضي الله عنها سألَتْه عليه السلام عن ذلك فنزلت ، والمعنى : كما أنكم من أصل واحد ، وأنَّ بعضكم مأخوذٌ من بعض فكذلك أنتم في ثواب العملِ لا يُثاب رجلٌ عاملٌ دونَ امرأة عاملة .
وعَبَّر الزمخشري عن هذا بأنها جملةٌ معترضةٌ . قال : " وهذه جلمةٌ معترضةٌ بُيِّنَتْ بها شِرْكةُ النساء من الرجالِ فيما وعَدَ اللهُ العاملين " ويعني بالاعتراضِ أنها جِيءَ بها بين قولِه { عَمَلَ عَامِلٍ } وبينَ ما فُصِّلَ به عملُ العاملِ مِنْ قولِه : { فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ } ، ولذلك قال الزمخشري : " فالذين هاجروا تفصيلٌ لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم .
والثاني : أن هذه الجملة صفة . الثالث : أنها حالٌ ، ذكرهما أبو البقاء ، ولم يعيِّن الموصوفَ ولا ذا الحال ، وفيه نظر .
قوله : { فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ } مبتدأٌ ، وقوله : { لأُكَفِّرَنَّ } جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : واللهِ لأكفِّرَنَّ ، وهذا القسمُ وجوابُه خبرٌ لهذا المبتدأ ، وفي هذه الآيةِ ونظائرِها من قوله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ } [ العنكبوت : 69 ] . وقول الشاعر :
جَشَأَتْ فقلتُ اللَّذْ خَشِيْتِ ليأتِيَنْ *** وإذا أتاكِ فلاتَ حين مَناصِ
رَدٌّ على ثعلب حيث زعم أن الجملة القسمية لا تقع خبراً . وله أن يقول : هذه معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ هو الخبرُ ، وله نظائر .
والظاهرُ أنَّ هذه الجمل التي بعد الموصول كلُّها صلاتٌ له ، فلا يكون الخبر إلا لِمَنْ جمع بين هذه الصفات : المهاجرة والقتل والقتال ، ويجوز أن يكون ذلك على التنويع ، ويكون قد حَذَف الموصولاتِ لفَهْم المعنى ، وهو مذهب الكوفيين ، وقد تقدَّم القول فيه ، والتقدير : فالذين هاجروا ، والذين أُخرجوا ، والذين قاتلوا ، فيكون الخبر بقوله : لأكفرنَّ عَمَّن اتصف بواحدة من هذه/ .
وقرأ جمهور السبعة : " وقاتَلوا وقُتِلوا " ببناء الأول للفاعل من المفاعلة ، والثاني للمفعول ، وهي قراءةُ واضحة . وابن عامر وابن كثير كذلك ، إلا أنهما شَدَّدا التاء من " قُتِّلوا " للتكثير ، وحمزة والكسائي بعكس هذا ، ببناء الأول للمفعول ، والثاني للفاعل .
وتوجيهُ هذه القراءةِ بأحدِ معنيين : إما أنَّ الواوَ لا تقتضي الترتيب فلذلك قُدِّم معها ما هو متأخرٌ في المعنى ، هذا إن حملنا ذلك على اتِّحاد الأشخاص الذين صَدَر منهم هذان الفعلان . الثاني : أن يُحْمل ذلك على التوزيع ، أي : منهم مَنْ قُتِل ومنهم مَنْ قاتل . وهذه الآية في المعنى كقوله : { قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ } [ آل عمران : 146 ] ، والخلافُ في هذه كالخلاف في قوله { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [ الآية : 111 ] في براءة ، والتوجيهُ هناك كالتوجيه هنا .
وقرأ عمر بن عبد العزيز : " وقَتَلوا وقُتِلوا " ببناء الأول للفاعل من " فَعَل " ثلاثياً ، والثاني للمفعول ، وهي كقراءة الجماعة .
وقرأ محارب بن دثار : " قَتَلوا وقاتلوا " ببنائهما للفاعل . وقرأ طلحة ابن مصرف : " وقُتِّلوا وقاتَلوا " كقراءةِ حمزة والكسائي ، إلاَّ أنَّه شدَّد التاءَ ، والتخريجُ كتخريج قراءتهما . ونقل الشيخ عن الحسن وأبي رجاء : " قاتلوا وقُتِّلوا " بتشديد التاء من " قُتِّلوا " ، وهذه هي قراءة ابن كثير وابن عامر كما تقدَّم ، وكأنه لم يَعْرف أنها قراءتُهما .
قوله : " ثواباً " في نصبه ثمانيةُ أوجه ، أحدها : أنه نصب على المصدرِ المؤكَّدِ ، لأنَّ معنى الجملة قبله يقتضيه ، والتقدير : لأُثيبَنَّهم إثابة أو تثويباً ، فوضع " ثواباً " موضعَ أحدِ هذين المصدرين ، لأنَّ الثواب في الأصل اسمٌ لِما يُثاب به كالعَطاء : اسمٌ لما يُعْطى ، ثم قد يقعان موقع المصدر ، وهو نظيرُ قولهِ : { صُنْعَ اللَّهِ } [ النمل : 88 ] ، و { وَعْدَ اللَّهِ } [ النساء : 122 ] في كونهما مؤكِّدين . الثاني : أن يكونَ حالاً من " جنات " أي : مُثاباً بها ، وجاز ذلك وإنْ كنت نكرةً لتخصُّصها بالصفة .
والثالث : أنه حال من ضميرِ المفعول أي : مُثابِين . الرابع : أنه حالٌ من الضمير في " تجري " العائدِ على " جنات " . وخَصَّص أبو البقاء كونَه حالاً بجَعْلِه بمعنى الشيء المُثابِ به . قال : " وقد يقع بمعنى الشيء المثاب بِه كقولك : " هذا الدرهَمُ ثوابُك " فعلى هذا يجوز أن يكون حالاً من ضمير الجنات أي : مُثاباً بها ، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير المفعول به في لأَدْخِلنهم " . الخامس : نصبُه بفعلٍ محذوف أي : يُعطيهم ثواباً ، السادس : أنه بدلٌ من " جنات " ، وقالوا : على تضمين " لأدْخلنهم " . لأَعْطِيَنَّهم لَمَّا رأوا أن الثواب لا يَصِح أن يُنْسَبَ إليه الدخولُ فيه احتاجوا إلى ذلك . ولقائلٍ أن يقول : جَعَل الثوابَ ظرفاً لهم مبالغةً ، كما قيل في قوله : { تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ } [ الحشر : 9 ] . السابع : أنه نصب على التمييز وهو مذهب الفراء . الثامن : أنه منصوب على القطع ، وهو مذهب الكسائي ، إلاَّ أنَّ مكيّاً لمَّا نقل هذا عن الكسائي فَسَّر القطع بكونه على الحال ، وعلى الجملةِ فهذان وجهان غريبان يُبْعُد فهمهما .
و { مِّن عِندِ اللَّهِ } صفةٌ له .
وقوله : { وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ } الأحسنُ أن يرتفعَ " حسن الثواب " على الفاعلية بالظرفِ قبله ، لاعتماده على المبتدأ قبله ، والتقدير : والله استقر عنده حسنُ الثواب ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ والظرفُ قبلَه خبرُه ، والجملة خبرُ الأول ، وإنما كان الوجهُ الأولُ أحسنَ لأنَّ فيه الإِخبارَ بمفرد وهو الأصلُ ، بخلافِ الثاني فإنَّ الإِخبار فيه بجملة .