الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا} (1)

قوله تعالى : { مِّن نَّفْسٍ } : متعلق ب " خَلَقكم " فهو في محل نصب . و " مِنْ " لابتداء الغاية . وكذلك " منها زوجَها " ، و " بَثَّ منهما " . وابن أبي عبلة : " واحدٍ " من غير تاء ، وله وجهان ، أحدهما : مراعاةُ المعنى ، لأن المراد بالنفس آدم عليه السلام . والثاني : أن النفسَ تُذَكَّر وتؤنث ، وعليه :

ثلاثةُ أنفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قوله : " وخَلَقَ " فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه عطفٌ على معنى " واحدة " لِما فيه من معنى الفعل كأنه قيل : " مِنْ نفسٍ وَحُدتْ " أي انفردت ، يُقال : " وَحُد ، يَحِد ، وَحْداً وحِدَة " ، بمعنى انفرد . الثاني : أنه عطفٌ على محذوف ، قال الزمخشري : " كأنه قيل : من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها وإنما حُذِف لدلالة المعنى عليه ، والمعنى : شَعَبَكم من نفس واحدة هذه صفتُها " بصفةٍ هي بيانٌ وتفصيلٌ لكيفيةِ خَلْقهِم منها . وإنما حَمَلَ الزمخشري والقائلَ الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيبِ الوجودي ؛ لأنَّ خَلْقَ حواء ، وهي المُعَبَّرُ عنها بالزوجِ ، قبل خلقنا ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح .

الثالث : أنه عطفٌ على " خَلَقَكم " فهو داخلٌ في حَيِّز الصلةِ ، والواوُ لا يُبالى بها ، إذ لا تقتضي ترتيباً . إلا أن الزمخشري خَصَّ هذه الوجهَ بكونِ الخطابِ في { يأَيُّهَا النَّاسُ } لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال : " والثاني : أن يُعْطَفَ على " خلقكم " ويكون الخطابُ للذين بُعِث إليهم الرسول ، والمعنى : خَلَقكم من نفس آدم ، لأنَّهم مِنْ جملةِ الجنسِ المفرَّعِ منه ، وخَلَقَ منها أُمَّكم حواء " . فظاهرُ هذا خصوصيَّةُ الوجهِ الثاني بكون الخطابِ للمعاصرين ، وفيه نَظَرٌ . وقَدَّر بعضُهم مضافاً في " منها " أي : " مِنْ جنسِها زوجَها " ، وهذا عند مَنْ يرى أن حواء لم تُخْلق من آدم ، وإنما خُلِقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم ، وهذا قولٌ مرغوب عنه .

وقرىء : " وخالِقٌ وباثٌّ " بلفظِ اسمِ الفاعل . وخَرَّجه الزمخشري على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : وهو خالقٌ وباثٌّ . يقال : بَثَّ وأَبَثَّ بمعنى " فَرَّق " ثلاثياً ورباعياً .

وقوله : { كَثِيراً } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه نعتٌ ل " رجالاً " قال أبو البقاء : " ولم يؤنِّثْه حَمْلاً على المعنى ، لأنَّ " رجالاً " عدد أو جنس أو جمع ، كما ذكَّر الفعلَ المسندَ إلى جماعة المؤنث كقوله : { وَقَالَ نِسْوَةٌ }

[ يوسف : 30 ] .

والثاني : أنه نعت لمصدر تقديره : وبث منهما بَثّاً كثيراً . وقد تقدم أن مذهب سيبويه في مثله النصبُ على الحال . فإن قيل : لِم خَصَّ الرجالَ بوصفِ الكثرة دون النساء ؟ ففيه جوابان ، أحدُهما : أنه حَذَفَ صفتَهنْ لدلالةِ ما قبلها عليها [ أي ] : ونساءً كثيرة .

والثاني أنَّ الرجال لشهرتِهم يناسِبُهم ذلك بخلافِ النساء فإنَّ الألْيَقَ بهنَّ الخمولُ والإِخفاء .

قوله : { تَسَآءَلُونَ } قرأ الكوفيون : " تَساءلون " بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً ، والأصل : تَتَساءلون ، وقد تقدَّم لنا الخلاف : هل المحذوفُ الأولى أو الثانية ؟ وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين لأنها مقارِبَتُها في الهمس ، ولهذا تُبْدَلُ من السين قالوا : " ست " والأصل : " سِدْسٌ " .

وقرأ عبد الله : " تَسْأَلون " من سأل الثلاثي . وقرىء " تَسَلون " بنقل حركة الهمزة على السين .

و " تَساءلون " على التفاعل فيه وجهان ، أحدهما : المشاركة في السؤال . والثاني : أنه بمعنى فَعَل ، ويَدُلُّ عليه قراءة عبد الله . قال أبو البقاء : " ودخَل حرف الجر في المفعول لأن المعنى : تتحالفون " يعني : أن الأصل كان تعدية " تسألون " إلى الضمير بنفسِه ، فلما ضُمِّن معنى " تتحالفون " عُدِّي تَعْدِيَتَه .

قوله : { وَالأَرْحَامَ } الجمهور/ على نصب ميم " والأرحام " وفيه وجهان ، أحدهما : أنه عطفٌ على لفظ الجلالة أي : واتقوا الأرحام أي : لا تقطعوها . وقَدَّر بعضهم مضافاً أي : قَطْعَ الأرحام ، ويقال : " إنَّ هذا في الحقيقة من عطفِ الخاص على العام ، وذلك أن معنى اتقوا الله : اتقوا مخالفَتَه ، وقطعُ الأرحام مندرجٌ فيها " . والثاني : أنه معطوفٌ على محل المجرور في " به " نحو : مررت بزيد وعمراً ، لَمَّا لَم يَشْرَكْه في الإِتباع على اللفظِ تبعه على الموضع . ويؤيد هذا قراءة عبد الله : " وبالأرحام " . وقال أبو البقاء : " تُعَظِّمونه والأرحام ، لأنَّ الحَلْفَ به تعظيمٌ له " .

وقرأ حمزة " والأرحامِ " بالجر ، وفيها قولان ، أحدهما : أنه عطفٌ على الضمير المجرور في " به " من غير إعادة الجار ، وهذا لا يجيزه البصريون ، وقد تقدَّم تحقيقُ القول في هذه المسألة ، وأنَّ فيها ثلاثةَ مذاهب ، واحتجاجُ كل فريق في قوله تعالى : { وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ }

[ البقرة : 217 ] .

وقد طَعَنَ جماعة على هذه القراءة كالزجاج وغيره ، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال : " حَدَّثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم قال : " والأرحامِ " بخفض الأرحام هو كقولهم : " أسألك بالله والرحمِ " قال : " وهذا قبيحٌ " لأنَّ العرب لا تَرُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قد كُنِيَ عنه " .

والثاني : أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور بل الواوُ للقسم وهو خفضٌ بحرفِ القسم مُقْسَمٌ به ، وجوابُ القسم : " إنَّ الله كان عليكم رقيباً " . وضُعِّف هذا بوجهين ، أحدهما : أن قراءتَيْ النصبِ وإظهار حرف الجر في " بالأرحام " يمنعان من ذلك ، والأصل توافقُ القراءات . والثاني : أنه نُهِيَ أن يُحْلَف بغير الله تعالى والأحاديثُ مصرحةٌ بذلك .

وقدَّر بعضُهم مضافاً فراراً من ذلك فقال : " تقديره : وربِّ الأرحام : قال أبو البقاء : وهذا قد أَغْنى عنه ما قبله " يعني الحلف بالله تعالى . ولقائل [ أن يقول : ] " إنَّ لله تعالى أن يُقْسِم بما شاء كما أقسم بمخلوقاتِه كالشمس والنجم والليل ، وإن كنا نحن مَنْهيين عن ذلك " ، إلا أنَّ المقصودَ من حيث المعنى ليس على القسمِ ، فالأَوْلى حَمْلُ هذه القراءةِ على العطفِ على الضمير ، ولا التفاتَ إلى طَعْنِ مَنْ طَعَن فيها ، وحمزةُ بالرتبة السَّنِيَّة المانعةِ له مِنْ نقلِ قراءة ضعيفة .

وقرأ عبد الله أيضاً : " والأرحامُ " رفعاً وهو على الابتداء ، والخبر محذوفٌ فقدَّره ابن عطية : " أهلٌ أَنْ توصل " ، وقَدَّره الزمخشري : و " الأرحامُ مِمَّا يتقى ، أو : مما يُتَساءل به " ، وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية والمعنوية ، بخلاف الأول ، فإنه للدلالة المعنوية فقط ، وقَدَّره أبو البقاء : " والأرحامُ محترمة " أي : واجبٌ حرمتُها .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } جارٍ مجرىٍ التعليل . والرقيب : فَعيل للمبالغة من رَقَبَ يَرْقُب رَقْباً ورُقوباً ورِقْباناً إذا أحَدَّ النظرَ لأمر يريد تحقيقَه ، واستعمالُه في صافت الله تعالى بمعنى الحفيظ ، قال :كمقاعِد الرُّقباءِ للضُّرَبَاءِ أيديهم نواهِدْ ***

والرقيب أيضاً : ضرب من الحَيَّات . والرقيب : السهم الثالث من سهام الميسر وقد تقدمت في البقرة . والارتقاب : الانتظار .