الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (117)

قوله تعالى : { إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي } : هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ " ما " منصوبةٌ بالقول ؛ لأنها وما في حَيِّزها في تأويلِ مقول . وقَدَّر ابو البقاء القولَ بمعنى الذكرِ والتأديةِ . و " ما " يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً .

قوله : { أَنِ اعْبُدُواْ } في " أَنْ " سبعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في " به " والتقديرُ : ما قلتُ إلا ما أمرتَني بأن اعبدوا ، وهذا الوجهُ سيأتي عليه اعتراض . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار " أعني " ، أي : إنه فَسَّر ذلك المأمورَ به . والثالث : أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ " به " في " ما أمرتني به " لأن محلِّ المجرور نصب . والرابع : أن موضعَها رفعٌ على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في المعنى من النصب على البدلِ الخامس : أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به ، السادس : أنها بدلٌ من " ما " نفسِها أي : ما قلت لهم إلا أن اعبدوا . السابع : أنَّ " أَنْ " تفسيرية ، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي . وممن ذهب إلى جوز أَنَّ " أَنْ " بدلٌ مِنْ " ما " فتكونُ منصوبةَ المحلِّ أو مِن الهاء فتكونُ مجرورتَه أبو إسحق الزجاج ، وأجاز أيضاً أن تكونَ تفسيريةً لا محلَّ لها . وهذه الأوجهُ قد منع بعضَها الزمخشري ، وأبو البقاء منع منها وجهاً واحداً وهو أن تكون تفسيرية ، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي ، وبدلاً من " ما " أو من الهاء في " به " . قال - رحمه الله - : " أنْ " في قوله : { أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ } إنْ جَعَلْتَها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر ، والمفسِّر : إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر ، وكلاهما لا وجهَ له : أما فعل القول فلأنه يُحْكى بعده الجمل ولا يَتَوسَّط بينه وبين محكيَّه حرفُ تفسير ، وأما فعل الأمر فمستنِدٌ إلى ضمير الله عز وجل ، فلو فِسَّرْتَه ب " اعبدوا الله ربي وربكم " لم يستقم لأن الله لا يقول : " اعبدوا الله ربي وربكم ، وإنْ جَعَلْتَها بدلاً لم يخلُ مِنْ أَنْ تجعلَها بدلاً من " ما " في " ما أمرتني به " أو من الهاء في " به " وكلاهُما غيرُ مستقيم ؛ لأنَّ البدلَ هو الذي يقوم مقامَ المبدلِ منه ، ولا يُقال : ما قلتُ لهم إلا أَنِ اعبدوا الله ، أي : ما قلتُ لهم إلا عبادتَه لأنَّ العبادةَ لا تقال ، وكذلك لو جَعَلْتَها بدلاً من الهاء ، لأنك لو أَقَمْتَ " أن اعبدوا " مُقامَ الهاء فقلت : إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلتِه ، فإن قلت : كيف تصنع ؟ قلت : يُحْمل فعلُ القول على معناه ، لأنَّ معنى " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به " : ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به ، حتى يستقيمَ تفسيره ب " أن اعبدوا الله ربي وربكم " ، ويجوزُ أن تكونَ " أَنْ " موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً .

وتعقَّب عليه الشيخ كلامَه فقال : " أمَّا قولَه " وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع وقوله : " لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم " فإنما لم يستقمْ لأنه جَعَلَ الجملةَ وما بعدها مضمومةً إلى فعلِ الأمر ، ويستقيم أن يكونَ فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله : " اعبدوا الله " ويكون " ربي وربكم " من كلام عيسى على إضمار " أعني " أي : " أعني ربي وربكم " ، لا على الصفة التي فَهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عندَه ، وأمَّا قولُه : " لأنّ العبادة لا تُقال " فصحيحٌ ، لكن يَصِحُّ ذلك على حَذْفِ مضاف أي : ما قلت لهم إلا القولَ الذي امرتني به قولَ عبادة الله أي : القولَ المتضمن عبادة الله ، وأمَّا قوله " لبقي الموصول بغير راجع إليه من صلته " فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ المبدل منه ، " ألا ترى إلى تجويز النحويين : " زيد مررت به أبي عبدِ الله " ولو قلت : " زيدٌ مررت بأبي عبد الله " لم يجز إلا على رأي الأخفش . وأما قولُه " عطفاً على بيان الهاء " ففيه بُعْد ، لأن عطفَ البيان أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ . وما اختاره الزمخشري وجَوَّزه غيرُه لا يَصِحُّ ، لأنها جاءت بعد " إلا " ، وكلُّ ما كان بعد " إلا " المستثنى بها فلا بُدَّ أن يكونَ له موضعٌ من الإِعراب ، و " أن " التفسيرية لا موضعَ لها من الإِعراب " . انتهى .

قلت : أمَّا قوله : " إنّ ربي وربكم من كلام عيسى " ففي غايةِ ما يكون من البُعْد عن الأفهام ، وكيف يَفْهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ " ربي " تابعٌ للجلالة ؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك ، وهذا أشدٌّ من قولهم " يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطع عنه " فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ " اعبدوا الله " من كلام الله تعالى و " ربي وربكم " من كلام عيسى ، وكلاهما مفسِّرٌ ل " أمرتَ " المسند للباري تعالى . وأمَّا قولُه " يَصِحُّ ذلك على حَذْف مضاف " ففيه بعض جودة ، وأما قولُه : " إنَّ حلولَ البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم " واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلِّم ، لأنَّ هذا معارَضٌ بنصِّهم ، على أنه لا يجوز " جاء الذي مررت به أبي عبد الله " بجرِّ " عبد الله " بدلاً من الهاء ، وعَلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قَدَّمْتُ التنبيه عليه ، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل : " لا يجوزُ هذا لأنّ البدل يَحُلُّ محل المبدل منه " فيجعلون ذلك علةً مانعةً ، يَعْرف ذلك مَنْ عانى كلامَهم ، ولولا خوفُ الإِطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى .

وأمَّا قوله : " وكلُّ ما كان بعد " إلا " المستثنى به إلى آخره " فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعى تسلُّط ما قبلها على ما بعدها .

ويجوز في " أَنْ " الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإِتباع ، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى مَنْ قرأ به في قوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ } [ الآية : 173 ] في البقرة . و " ربي " نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإِتباع رفعاً أو نصباً ، فهذه خمسةٌ أوجهٍ تقدَّم إيضاحُها .

قوله : { شَهِيداً } خبر " كان " و " عليهم " متعلق به ، و " ما " مصدريةٌ ظرفيةٌ أي : تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان ، و " دام " صلتها ، ويجوز فيها التمامُ والنقصان ، فإنْ كانت تامةً كان معناها الإِقامةَ ، ويكون " فيهم " متعلقاً بها ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال ، والمعنى : وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم ، فلم يُحْتج هنا إلى منصوب ، وتكون حينئذٍ متصرفةً ، وإنْ كانت الناقصةَ لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع ، فيكون " فيهم " في محلِّ نصب خبراً لها ، والتقديرُ : مدةَ دوامي مستقراً فيهم ، وقد تقدم أنه يقال : " دِمْتَ تَدام " كخِفْتَ تَخاف . قوله : { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ } يجوز في " أنت " أن تكون فصلاً وأن تكونَ تأكيداً . وقرئ " الرقيب " بالرفع على أنه خبر ل " أنت " والجملةُ خبرٌ " ل كان " ، كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وكنتَ عليها بالمَلا أنْتَ أَقْدَرُ

وقد تقدَّم اشتقاقُ { الرقيب } و " عليهم " متعلِّق به . و " على كلِّ شيء " متعلِّق ب " شهيد " قُدِّم للفاصلة .