الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡۖ فَمَن يَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّيٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (115)

وقرأ اليماني : " وإنَّه " ب " إنَّ " المشددة ، والضمير : إما للعيد وإما للإِنزال .

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم : { مُنَزِّلُهَا } : بالتشديد ، فقيل : إنَّ أَنْزَل ونَزَّل بمعنى ، وقد تقدم تحقيق ذلك . وقيل : التشديد للتكثير ، ففي التفسير أنها نَزَلت مراتٍ متعددة ، وأما نُنَزِّلُ فقُدِّم تحقيق الخلاف فيه .

قوله تعالى : { بَعْدُ } : متعلق ب " يكفر " ، وبُني لقَطْعِه عن الإِضافة ، إذ الأصل : بعد الإِنزالِ . و " منكم " متعلقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنه حال من فاعل " يَكْفُرْ " وقوله : { عَذَاباً } فيه وجهان ، أظهرهما : أنه اسمُ مصدرٍ بمعنى التعذيب ، أو مصدرٌ على حَذْفَِ الزوائد نحو : " عطاء ونبات " ل " أعطى " وأنبت " ، وانتصابُه على المصدرية بالتقديرين المذكورين . والثاني - أجازه أبو البقاء - أن يكون مفعولاً به على السِّعَة ، يعني جَعَلَ الحَدَثَ مفعولاً به مبالغةً ، وحينئذ يكون نصبه على التشبيه بالمفعول به ، والمنصوبُ على التشبيه بالمفعولِ به عند النحاة ثلاثةُ أنواع : معمولُ الصفةِ المشبهة ، والمصدرُ ، والظرفُ المتسع فيهما ، أمَّا المصدرُ فكما تقدَّم ، وأمَّا الظرفُ فنحو : " يوم الجمعة صُمتُه " ، ومنه قوله :

ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامراً *** قليلٌ سوى الطعنِ النِّهالِ نوافِلُهْ

قال الزمخشري : " ولو أُريد بالعذاب ما يُعَذَّب به لكان لا بد من الباء " قلت : إنما قال ذلك لأنَّ إطلاقَ العذاب على ما يُعَذَّب به كثير ، فخاف أن يُتَوهَّم ذلك ، وليس لقائلٍ أن يقولَ : كان الأصلُ : بعذاب ، ثم حَذَفَ الحرف فانتصب المجرورُ به ، لأنَّ ذلكَ لم يَطَّرِدْ إلاَّ مع " أَنْ " بشرطِ أَمْنِ الَّبْسِ .

قوله : { لاَّ أُعَذِّبُهُ } الهاءُ فيها ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنها عائدة على " عذاب " الذي تقدم أنه بمعنى التعذيب ، التقدير : فإني أعذَّبه تعذيباً لا أعذِّبُ مثلَ ذلك التعذيب أحداً ، والجملة في محلِّ نصب صفة ل " عذاباً " وهذا وجه سالم من تَكَلُّفٍ ستراه في غيره . ولَمَّا ذكره أبو البقاء هذا الوجه - أعني عودَها على " عذاباً " المتقدم - قال : " وفيه على هذا وجهان ، أحدُهما : على حَذْفِ حرف الجر ، أي : لا أعذب به أحداً ، والثاني : أنه مفعولٌ به على السَّعة . قلت : أمَّا قوله " حُذِف الحرف " فقد عرفت أنه لا يجوز إلا فيما استثني . الثاني من أوجه الهاء : أنها تعود على " مَن " المتقدمة في قوله : { فَمَن يَكْفُرْ } والمعنى : لا أعذَّبُ مثلَ عذاب الكافر أحداً ، ولا بد من تقدير هذين المضافين ليصِحَّ المعنى . قال أبو البقاء في هذا الوجه : " وفي الكلام حذفٌ أي : لا أعذب الكافر أي : مثل الكافر ، أي : مثل عذاب الكافر " الثالث : أنها ضمير المصدر المؤكد نحو : " ظَنَنْتُهُ زيداً قائماً " ولَمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ اعترض على نفسِه فقال : " فإنْ قلت : " لا أعذِّبه " صفةٌ ل " عذاب " وعلى هذا التقدير لا يعودُ من الصفة على الموصوف شيءٌ .

قيل : إنَّ الثاني لما كان واقعاً موقعَ المصدرِ والمصدرُ جنس و " عذاباً " نكرةٌ كان الأول داخلاً في الثاني ، والثاني مشتملٌ على الأول وهو مثل : " زيد نعم الرجل " انتهى ، فجعل الرابطَ العمومَ ، وهذا الذي ذكره من أنَّ الربط بالعموم إنما ذكره النحويون في الجملةِ الواقعةِ خبراً لمبتدأ ، ولذلك نَظَّره أبو البقاء ب " زيد نِعْم الرجل " وهذا لا ينبغي أن يُقاسَ عليه ، لأن الربطَ يحصُل في الخبر بأشياءَ لا تجوز في الجملة الواقعةِ صفةً ، وهذا منها ، ثم هذا الاعتراضُ الذي ذَكَره واردٌ عليه في الوجه الثاني ؛ فإنَّ الجملة صفة ل " عذاباً " وليس فيها ضميرٌ ، فإنْ قيل : ليست هناك بصفةٌ ، قيل : يفسد المعنى بتقدير الاستئناف ، وعلى تقديرِ صحته فلتكنْ هنا أيضاً مستأنفةً . " وأحداً " منصوبٌ على المفعول الصريحِ . و " من العالمين " صفةٌ ل " أحداً فيتعلَّق بمحذوف .