الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ} (1)

قوله تعالى : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ } : " جعل " هنا تتعدى لمفعول واحد لأنها بمعنى خلق ، هكذا عبارة النحويين ، ظاهرها أنهما مترادفان . إلا أن الزمخشري فرَّق بينهما فقال : " الفرق بين الخَلْق والجَعْل أنَّ الخَلْق فيه معنى التقدير و[ في ] الجعل معنى التصيير كإنشاء شيء من شيء ، أو تصييرِ شيءٍ شيئاً ، أو نقلِه من كان إلى مكان ، ومن ذلك : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } لأنَّ الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار " انتهى . وقال الطبري : " جَعَل " هنا هي التي تتصرف في طَرَف الكلام كما تقول : جعلت أفعل كذا ، فكأنه : " وجعل إظلامَها وإنارتَها " وهذا لا يشبه كلام أهل اللسان . ولكونها عند أبي القاسم ليست بمعنى " خلق " فسَّرها هنا بمعنى أحدث وأنشأ . وكذا الراغب جعلها بمعنى أوجد .

ثم إن الشيخ اعترض عليه هنا لمَّا استطرد ، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر ، ومثَّل بقوله : { وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً }

[ الزخرف : 19 ] فقال : " وما ذَكَره من أنَّ " جَعَل " بمعنى صَيَّر في قوله : { وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَة } لا يَصِحُّ لأنهم لا يُصَيِّرهم إناثاً ، وإنما ذكر بعض النحويين أنها هنا بمعنى سمَّى " قلت : ليس المرادُ بالتصيير التصييرَ بالفعل ، بل المراد التصيير بالقول ، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك ، وسيأتي لهذا - إن شاء الله - مزيدُ بيان في موضعه . وقد ظهر الفرق بين تخصيص السماوات والأرض بالخَلْق والظلمات والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري . وإنما وَحَّد النور وجَمَع الظلمات لأن النورَ مِنْ جنس واحد وهو النار ، والظلمات كثيرة ، فإنَّ ما من جِرْمٍ إلا وله ظلُّ ، وظلُّه هو الظلمة ، وحَسَّن هذا أيضاً أن الصلةَ التي قبلها تقدَّم فيها جَمْعٌ ثم مفردٌ فعطفْتَ هذه عليها كذلك وقد تقدَّم في البقرة الحكمة في جمع السماوات وإفراد الأرض . وقُدِّمت " الظلمات " في الذِّكر لأنه مُوافِقٌ في الوجود ؛ إذ الظلمة قبل النور عند الجمهور .

قوله : { ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } " ثم " هذه ليست للترتيب الزماني ، وإنما هي للتراخي بين الرتبتين ، والمراد اسبتعادُ أن يَعْدِلوا به غيرَه مع ما أوضح من الدلالات . وهذه عطفٌ : إمَّا على قوله " الحمد لله " وإما على قوله : " خلق السماوات " قال الزمخشري : " فإن قلت : فما معنى " ثم " ؟ قلت : استبعاد أن يَمْتَرُوا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم وميتهم وباعثهم " وقال ابن عطية : " ثم " دالة على ما قُبْح فِعْل الذين كفروا ؛ فإنَّ خَلْقه للسماوات والأرض وغيرهما قد تَقَّرر ، وآياتِه قد سَطَعَتْ ، وإنعامه بذلك قد تبيَّن ، ثم مع هذا كله يَعْدِلون به غيره " .

قال الشيخ : " ما قالاه من انها للتوبيخ والاستبعاد ليس بصحيح ، لأنها لم تُوضَعْ لذلك ، والاستبعادُ والتوبيخُ مستفادٌ من السياق لا من " ثم " ، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك ، بل " ثم " هنا للمُهْلة في الزمان ، وهي عاطفةٌ جملةً اسمية على جملة اسمية " . يعني على " الحمد لله " . ثم اعترض على الزمخشري في تجويزه أن تكون معطوفةً على " خَلَق " بأنَّ " خَلَق " صلة ، فالمعطوفُ عليها يُعطى حكمَها ، ولكن ليس ثَمَّ رابطٌ يعود منها على الموصول . ثم قال : " إلا أن يكون على رأيِ مَنْ يَرى الرَّبْطَ بالظاهر كقولهم : أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري " وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أن يُحملَ عليه كتابُ الله " . قلت : الزمخشري إنما يريد العطف ب " ثم " لتراخي ما بين الرتبتين ، ولا يريد التراخي في الزمان كما قد صرَّح به هو فيكف يَلْزمُه ما ذَكَرَ مِنَ الخلوِّ عن الرابط ، وكيف يَتَخيَّل كونَها للمهلة في الزمان كما ذكر الشيخ ؟

قوله : { بِرَبِّهِمْ } يجوز أن يتعلَّق ب " كفروا " فيكون " يُعْدِلون " بمعنى يَميلون عنه ، من العُدول ، ولا مفعولَ له حينئذ ، ويجوز أن يتعلَّ ب " يعدِلون " وقُدِّم للفواصل ، وفي الباء حينئذ احتمالان ، أحدهما : ان تكون بمعنى عن ، و " يَعْدِلون " من العُدول وأيضاً ، أي يعدِلون عن ربهم إلى غيره . والثاني : أنها للتعدية ، ويَعْدِلون من العَدْل وهو التسوية بين الشيئين ، أي : ثم الذين كفروا يُسَوُّوْن بربهم غيرَه من المخلوقين ، فيكون المفعول محذوفاً .