البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{الٓمٓ} (1)

{ الم } أسماء مدلولها حروف المعجم ، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم ، وهي موقوفة الآخر ، لا يقال إنها معربة لأنها لم يدخل عليها عامل فتعرب ولا يقال إنها مبنية لعدم سبب البناء ، لكن أسماء حروف المعجم قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب ، تقول هذه ألف حسنة ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة ، أسماء العدد ، إذا عدّوا يقولون : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة .

وقد اختلف الناس في المراد بها ، وسنذكر اختلافهم إن شاء الله تعالى .

فأما هذه الحروف المقطعة أوائل السور ، فجمهور المفسرين على أنها حروف مركبة ومفردة ، وغيرهم يذهب إلى أنها أسماء عبر بها عن حروف المعجم التي ينطق بالألف واللام منها في نحو : قال ، والميم في نحو : ملك ، وبعضهم يقول : إنها أسماء السور ، قاله زيد بن أسلم .

وقال قوم : إنها فواتح للتنبيه والاستئناف ليعلم أن الكلام الأول قد انقضى .

قال مجاهد : هي في فواتح السور كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد .

بل ولا بل نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش .

وقال الحسن : هي أسماء السور وفواتحها ، وقوم : إنها أسماء الله أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها .

وروي عن ابن عباس وقوم : هي حروف متفرقة دلت على معان مختلفة ، وهؤلاء اختلفوا في هذه المعاني فقال قوم : يتألف منها اسم الله الأعظم ، قاله علي وابن عباس ، إلا أنّا لا نعرف تأليفه منها ، أو اسم ملك من ملائكته ، أو نبي من أنبيائه ، لكن جهلنا طريق التأليف .

وقال سعيد بن جبير : هي أسماء الله تعالى مقطعة ، لو أحسن الناس تأليفها تعلموا اسم الله الأعظم .

وقال قتادة : هي أسماء القرآن كالفرقان .

وقال أبو العالية : ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسماء الله تعالى .

وقيل : هي حروف تدل على مدة الملة ، وهي حساب أبي جاد ، كما ورد في حديث حيي بن أخطب .

وروى هذا عن أبي العالية وغيره .

وقيل : مدة الأمم السالفة وقيل : مدة الدنيا .

وقال أبو العالية أيضاً : ليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين ، وقيل : هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه قال للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم .

وقال قطرب وغيره : هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم فقوله : { الم } بمنزلة : أ ب ت ث ، ليدل بها على التسعة وعشرين حرفاً .

وقال قوم : هي تنبيه كما في النداء .

وقال قوم : إن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيستمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة .

وقيل : هي أمارة لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتاب في أول سور منه حروف مقطعة ، وقيل : حروف تدل على ثناء أثنى الله به على نفسه .

وقال ابن عباس : { الم } أنا الله أعلم ، والمراد أنا الله أرى .

و { المص } أنا الله أفصل .

وروي عن سعيد بن جبير مثل ذلك .

وروي عن ابن عباس الألف : من الله ، واللام : من جبريل ، والميم : من محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال الأخفش : هي مبادئ كتب الله المنزلة بالألسن المختلفة ومبان من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وأصول كلام الأمم .

وقال الربيع بن أنس : ما منها حرف إلا يتضمن أموراً كثيرة دارت فيها الألسن ، وليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو في الأبد وللأبد ، وليس منها حرف إلا في مدة قوم وآجالهم .

وقال قوم : معانيها معلومة عند المتكلم بها لا يعلمها إلا هو ، ولهذا قال الصديق رضي الله عنه : في كتاب الله سر ، وسر الله في القرآن في الحروف التي في أوائل السور .

وبه قال الشعب .

وقال سلمة بن القاسم : ما قام الوجود كله إلا بأسماء الله الباطنة والظاهرة ، وأسماء الله المعجمة الباطنة أصل لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة ، وهي خزانة سرّه ومكنون علمه ، ومنها تتفرع أسماء الله كلها ، وهي التي قضى بها الأمور وأودعها أم الكتاب ، وعلى هذا حوّم جماعة من القائلين بعلوم الحروف ، وممن تكلم في ذلك : أبو الحكم بن برجان ، وله تفسير للقرآن ، والبوني ، وفسر القرآن والطائي بن العربي ، والجلالي ، وابن حمويه ، وغيرهم ، وبينهم اختلاف في ذلك .

وسئل محمد بن الحنفية عن { كهيعص } فقال للسائل : لو أُخبرت بتفسيرها لمشيت على الماء لا يواري قدميك .

وقال قوم : معانيها معلومة ويأتي بيان كل حرف في موضعه .

وقال قوم : اختص الله بعلمها نبيه صلى الله عليه وسلم .

وقد أنكر جماعة من المتكلمين أن يكون في القرآن ما لا يفهم معناه ، فانظر إلى هذا الاختلاف المنتشر الذي لا يكاد ينضبط في تفسير هذه الحروف والكلام عليها .

والذي أذهبُ إليه : أن هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وسائر كلامه تعالى محكم .

وإلى هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد اليزيدي ، وهو قول الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين ، قالوا : هي سر الله في القرآن ، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ، ولا يجب أن نتكلم فيها ، ولكن نؤمن بها وتمر كما جاءت .

وقال الجمهور : بل يجب أن يتكلم فيها وتلتمس الفوائد التي تحتها ، والمعاني التي تتخرج عليها ، واختلفوا في ذلك الاختلاف الذي قدمناه .

قال ابن عطية : والصواب ما قال الجمهور ، فنفسر هذه الحروف ونلتمس لها التأويل لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظماً ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها ، كقول الشاعر :

قلت لها قفي فقالت قاف ***

أراد قالت وقفت

وكقول القائل :

بالخير خيرات وإن شرَّفا *** ولا أريد الشر إلا أن تا

أراد وإن شراً فشر ، وأراد إلا أن تشاء : والشواهد في هذا كثيرة فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها ، فينبغي إذا كان من معهود كلام العرب ، أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه ، انتهى كلامه .

وفرق بين ما أنشد وبين هذه الحروف ، وقد أطال الزمخشري وغيره الكلام على هذه الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير ، ولا يقوم على كثير من دعاويه برهان .

وقد تكلم المعربون على هذه الحروف فقالوا : لم تعرب حروف التهجي لأنها أسماء ما يلفظ ، فهي كالأصوات فلا تعرب إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها ، ويحتمل محلها الرفع على المبتدأ أو على إضمار المبتدأ ، والنصب بإضمار فعل ، والجر على إضمار حرف القسم ، هذا إذا جعلناها اسماً للسور ، وأما إذا لم تكن اسما للسور فلا محل لها ، لأنها إذ ذاك كحروف المعجم أوردت مفردة من غير عامل فاقتضت أن تكون مستكنة كأسماء الأعداد ، أو ردتها لمجرد العدد بغير عطف ، وقد تكلم النحويون على هذه الحروف على أنها أسماء السور ، وتكلموا على ما يمكن إعرابه منها وما لا يمكن ، وعلى ما إذا أعرب فمنه ما يمنع الصرف ، ومنه ما لا يمنع الصرف ، وتفصيل ذلك في علم النحو .

وقد نقل خلاف في كون هذه الحروف آية ، فقال الكوفيون : { الم } آية ، وكذلك هي آية في أول كل سورة ذكرت فيها ، وكذلك { المص } و { طسم } وأخواتها و { طه } و { يس } و { حم } وأخواتها إلا { حم عسق } فإنها آيتان و { كهيعص } آية ، وأما { المر } وأخواتها فليست بآية ، وكذلك { طس } و { ص } و { ق } و { ن } و { القلم } وق وص حروف دل كل حرف منها على كلمة ، وجعلوا الكلمة آية ، كما عدوا : { الرحمن } { ومدهامتان } آيتيين .

وقال البصريون وغيرهم : ليس شيء من ذلك آية .

وذكر المفسرون الاقتصار على هذه الحروف في أوائل السور ، وأن ذلك الاقتصار كان لوجوه ذكروها لا يقوم على شيء منها برهان فتركت ذكرها .

وذكروا أن التركيب من هذه الحروف انتهى إلى خمسة ، وهو : كهيعص ، لأنه أقصى ما يتركب منه الاسم المجرد ، وقطع ابن القعقاع ألف لام ميم حرفاً حرفاً بوقفة وقفة ، وكذلك سائر حروف التهجي من الفواتح ، وبين النون من طسم ويس وعسق ونون إلا في طس تلك فإنه لم يظهر ،

5

/خ20