البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ} (7)

{ صراط الذين } اسم موصول ، والأفصح كونه بالياء في أحواله الثلاثة ، وبعض العرب يجعله بالواو وفي حالة الرفع ، واستعماله بحذف النون جائز ، وخص بعضهم ذلك بالضرورة ، إلا أن كان لغير تخصيص فيجوز في غيرها ، وسمع حذف أل منه فقالوا : الذين ، وفيما تعرف به خلاف ذكر في النحو ، ويخص العقلاء بخلاف الذي ، فإنه ينطلق على ذي العلم وغيره .

{ أنعمت } ، النعمة : لين العيش وخفضه ، ولذلك قيل للجنوب النعامي للين هبوبها ، وسميت النعامة للين سهمها : نعم إذا كان في نعمة ، وأنعمت عينه أي سررتها ، وأنعم عليه بالغ في التفضيل عليه ، أي والهمزة في أنعم بجعل الشيء صاحب ما صيغ منه ، إلا أنه ضمن معنى التفضل ، فعدى بعلى ، وأصله التعدية بنفسه .

أنعمته أي جعلته صاحب نعمة ، وهذا أحد المعاني التي لأفعل ، وهي أربعة وعشرون معنى ، هذا أحدها .

والتعدية ، والكثرة ، والصيرورة ، والإعانة ، والتعريض ، والسلب ، وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه ، وبلوغ عدد أو زمان أو مكان ، وموافقة ثلاثي ، وإغناء عنه ، ومطاوعة فعل وفعل ، والهجوم ، ونفي الغريزة ، والتسمية ، والدعاء ، والاستحقاق ، والوصول ، والاستقبال ، والمجيء بالشيء والتفرقة مثل ذلك أدنيته وأعجبني المكان ، وأغد البعير وأحليت فلاناً ، وأقبلت فلاناً ، واشتكيت الرجل ، وأحمدت فلاناً ، وأعشرت الدراهم ، وأصبحنا ، وأشأم القوم ، وأحزنه بمعنى حزنه ، وأرقل ، وأقشع السحاب مطاوع قشع الريح السحاب ، وأفطر مطاوع فطرته ، وأطلعت عليهم ، وأستريح ، وأخطيته سميته مخطئاً ، وأسقيته ، وأحصد الزرع ، وأغفلته وصلت غفلتي اليه ، وأففته استقبلته بأف هكذا مثل هذا .

وذكر بعضهم أن أفعل فعل ، ومثل الاستقبال أيضاً بقولهم : أسقيته أي استقبلته بقولك سقياً لك ، وكثرت جئت بالكثير ، وأشرقت الشمس أضاءت ، وشرقت طلعت .

التاء المتصلة بأنعم ضمير المخاطب المذكر المفرد ، وهي حرف في أنت ، والضميران فهو مركب .

{ عليهم } ، على : حرف جر عند الأكثرين ، إلا إذا جرت بمن ، أو كانت في نحو هون عليك .

ومذهب سيبويه أنها إذا جرت اسم ظرف ، ولذلك لم يعدها في حروف الجر ، ووافقه جماعة من متأخري أصحابنا ومعناها الاستعلاء حقيقة أو مجازاً ، وزيد أن تكون بمعنى عن ، وبمعنى الباء ، وبمعنى في ، وللمصاحبة ، وللتعليل ، وبمعنى من ، وزائدة ، مثل ذلك { كل من عليها فان } { فضلنا بعضهم على بعض } ، بعد على كذا حقيق علي أن لا أقول على ملك سليمان { وآتى المال على حبه } { ولتكبروا الله على ما هداكم } { حافظون إلا على أزواجهم }

أبى الله إلا أن سرحة مالك *** على كل أفنان العضاه تروق

أي تروق كل أفنان العضاة .

هم ضمير جمع غائب مذكر عاقل ، ويكون في موضع رفع ونصب وجر .

وحكى اللغويون في عليهم عشر لغات ضم الهاء ، وإسكان الميم ، وهي قراءة حمزة .

وكسرها وإسكان الميم ، وهي قراءة الجمهور .

وكسر الهاء والميم وياء بعدها ، وهي قراءة الحسن .

وزاد ابن مجاهد أنها قراءة عمر بن فائد .

وكذلك بغير ياء ، وهي قراءة عمرو بن فائد .

وكسر الهاء وضم الميم واو بعدها ، وهي قراءة ابن كثير ، وقالون بخلاف عنه .

وكسر الهاء وضم الميم بغير واو وضم الهاء والميم وواو بعدها ، وهي قراءة الأعرج والخفاف عن أبي عمرو .

وكذلك بدون واو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها .

كذلك بغير ياء .

وقرئ بهما ، وتوضيح هذه القراءات بالخط والشكل : عليهم ، عليهم ، عليهموا ، عليهم ، عليهمي ، عليهم ، عليهم ، عليهمي ، عليهم ، عليهموا .

وملخصها ضم الهاء مع سكون الميم ، أو ضمها بإشباع ، أو دونه ، أو كسرها بإشباع ، أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم ، أو كسرها بإشباع ، أو دونه ، أو ضمها بإشباع ، أو دونه ، وتوجيه هذه القراءات ذكر في النحو .

اهدنا صورته صورة الأمر ، ومعناه الطلب والرغبة ، وقد ذكر الأصوليون لنحو هذه الصيغة خمسة عشر محملاً ، وأصل هذه الصيغة أن تدل على الطلب ، لا على فور ، ولا تكرار ، ولا تحتم ، وهل معنى اهدنا ارشدنا ، أو وفقنا ، أو قدمنا ، أو ألهمنا ، أو بين لنا أو ثبتنا ؟ أقوال أكثرها عن ابن عباس ، وآخرها عن علي وأُبي .

وقرأ ثابت البناني بصرنا الصراط ، ومعنى الصراط القرآن ، قاله علي وابن عباس : وذكر المهدوي أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فسره بكتاب الله أو الإيمان وتوابعه ، أو الإسلام وشرائعه ، أو السبيل المعتدل ، أو طريق النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر ، قاله أبو العالية والحسن ، أو طريق الحج ، قاله فضيل بن عياض ، أو السنن ، قاله عثمان ، أو طريق الجنة ، قاله سعيد بن جبير ، أو طريق السنة والجماعة ، قاله القشيري ، أو طريق الخوف والرجاء ، قاله الترمذي ، أو جسر جهنم ، قاله عمرو بن عبيد .

وروي عن المتصوفة في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } أقوال ، منها : قول بعضهم : { اهدنا الصراط المستقيم } بالغيبوبة عن الصراط لئلا يكون مربوطاً بالصراط ، وقول الجنيد أن سؤال الهداية عند الحيرة من أشهار الصفات الأزلية ، فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية لئلا يستغرقوا في الصفات الأزلية .

وهذه الأقوال ينبو عنها اللفظ ، ولهم فيما يذكرون ذوق وإدراك لم نصل نحن إليه بعد .

وقد شحنت التفاسير بأقوالهم ، ونحن نلم بشيء منها لئلا يظن أنا إنما تركنا ذكرها لكوننا لم نطلع عليها .

وقد رد الفخر الرازي على من قال إن الصراط المستقيم هو القرآن أو الإسلام وشرائعه ، قال : لأن المراد صراط الذين أنعمت عليهم من المتقدمين ولم يكن لهم القرآن ولا الإسلام ، يعني بالإسلام هذه الملة الإسلامية المختصة بتكاليف لم تكن تقدمتها .

وهذا الرد لا يتأتى له إلا إذا صح أن الذين أنعم الله عليهم هم متقدمون ، وستأتي الأقاويل في تفسير الذين أنعم الله عليهم ، واتصال ن باهد مناسب لنعبد ونستعين لأنه لما أخبر المتكلم أنه هو ومن معه يعبدون الله ويستعينونه سأل له ولهم الهداية إلى الطريق الواضح ، لأنهم بالهداية إليه تصح منهم العبادة .

ألا ترى أن من لم يهتد إلى السبيل الموصلة لمقصوده لا يصح له بلوغ مقصوده ؟ وقرأ الحسن ، والضحاك : صراطاً مستقيماً دون تعريف .

وقرأ جعفر الصادق : صراط مستقيم بالإضافة ، أي الدين المستقيم .

فعلى قراءة الحسن والضحاك يكون صراط الذين بدل معرفة من نكره ، كقوله تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ، صراط الله } ، وعلى قراءة الصادق وقراءات الجمهور تكون بدل معرفة من معرفة صراط الذين بدل شيء من شيء ، وهما بعين واحدة ، وجيء بها للبيان لأنه لما ذكر قبل { اهدنا الصراط المستقيم } كان فيه بعض إبهام ، فعينه بقوله : { صراط الذين } ليكون المسؤول الهداية إليه ، قد جرى ذكره مرتين ، وصار بذلك البدل فيه حوالة على طريق من أنعم الله عليهم ، فيكون ذلك أثبت وأوكد ، وهذه هي فائدة نحو هذا البدل ، ولأنه على تكرار العامل ، فيصير في التقدير جملتين ، ولا يخفى ما في الجملتين من التأكيد ، فكأنهم كرر واطلب الهداية .

ومن غريب القول أن الصراط الثاني ليس الأول ، بل هو غيره ، وكأنه قرئ فيه حرف العطف ، وفي تعيين ذلك اختلاف .

قيل هو العلم بالله والفهم عنه ، قاله جعفر بن محمد ، وقيل التزام الفرائض واتباع السنن ، وقيل هو موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة .

قال تعالى : { وأسبغ عليكم نعمهُ ظاهرة وباطنة }

وقرأ : صراط من أنعمت عليهم ، ابن مسعود ، وعمر ، وابن الزبير ، وزيد بن علي .

والمنعم عليهم هنا الأنبياء أو الملائكة أو أمة موسى وعيسى الذين لم يغيروا ، أو النبي صلى الله عليه وسلم أو النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ، أو المؤمنون ، قاله ابن عباس .

أو الأنبياء والمؤمنون ، أو المسلمون ، قاله وكيع ، أقوال ، وعزا كثيراً منها إلى قائلها ابن عطية ، فقال : قال ابن عباس : والجمهور أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، انتزعوا ذلك من آية النساء .

وقال ابن عباس أيضاً : هم المؤمنون .

وقال الحسن : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

وقالت فرقة : مؤمنو بني إسرائيل .

وقال ابن عباس : أصحاب موسى قبل أن يبدلوا .

وقال قتادة : الأنبياء خاصة .

وقال أبو العالية : محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، انتهى .

ملخصاً ولم يقيد الأنعام ليعم جميع الأنعام ، أعني عموم البدل .

وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة ، وقيل بأن نجاهم من الهلكة ، وقيل بالهداية واتباع الرسول ، وروي عن المتصوفة تقييدات كثيرة غير هذه ، وليس في اللفظ ما يدل على تعيين قيد .

واختلف هل لله نعمة على الكافر ؟ فأثبتها المعتزلة ونفاها غيرهم .

وموضع عليهم نصب ، وكذا كل حرف جر تعلق بفعل ، أو ما جرى مجراه ، غير مبني للمفعول .

وبناء أنعمت للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية وتحصيلها ، أي طلبنا منك الهداية ، إذ سبق إنعامك ، فمن إنعامك إجابة سؤالنا ورغبتنا ، كمثل أن تسأل من شخص قضاء حاجة ونذكره بأن من عادته الإحسان بقضاء الحوائج ، فيكون ذلك آكد في اقتضائها وأدعى إلى قضائها .

وانقلاب الفاعل مع المضمر هي اللغة الشهرى ، ويجوز إقرارها معه على لغة ، ومضمون هذه الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم الله عليهم ، لأن من صدر منه حمد الله وأخبر بأنه يعبده ويستعينه فقد حصلت له الهداية ، لكن يسأل دوامها واستمرارها .

{ غير } مفرد مذكر دائماً وإذا أريد به المؤنث جاز تذكير الفعل حملاً على اللفظ ، وتأنيثه حملاً على المعنى ، ومدلوله المخالفة بوجه مّا ، وأصله الوصف ، ويستثنى به ويلزم الإضافة لفظاً أو معنى ، وإدخال أل عليه خطأ ولا يتعرف ، وإن أضيف إلى معرفة .

ومذهب ابن السراج أنه إذا كان المغاير واحداً تعرف بإضافته إليه ، وتقدم عن سيبويه أن كل ما إضافته غير محضة ، قد يقصد بها التعريف ، فتصير محضة ، فتتعرف إذ ذاك غير بما تضاف إليه إذا كان معرفة ، وتقرير هذا كله في كتب النحو .

وزعم البيانيون أن غير أو مثلاً في باب الإسناد إليهما مما يكاد يلزم تقديمه ، قالوا نحو قولك غيرك يخشى ظلمه ، ومثلك يكون للمكرمات ونحو ذلك ، مما لا يقصد فيه بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه ، ولكنهم يعنون أن كل من كان مثله في الصفة كان من مقتضى القياس ، وموجب العرف أن يفعل ما ذكر ، وقوله :

غيري بأكثر هذا الناس ينخدع . . .

غرضه أنه ليس ممن ينخدع ويغتر ، وهذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدما نحو : يكون للمكرمات مثلك ، وينخدع بأكثر هذا الناس غيري ، فأنت ترى الكلام مقلوباً على جهته .

{ المغضوب عليهم } ، الغضب : تغير الطبع لمكروه ، وقد يطلق على الإعراض لأنه من ثمرته .

لا حرف يكون للنفي وللطلب وزائداً ، ولا يكون اسما خلافاً للكوفيين .

{ ولا الضالين } ، والضلال : الهلاك ، والخفاء ضل اللبن في الماء ، وقيل أصله الغيبوبة في كتاب لا يضل ربي ، وضللت الشيء جهلت المكان الذي وضعته فيه ، وأضللت الشيء ضيعته ، وأضل أعمالهم ، وضل غفل ونسي ، وأنا من الضالين ، { أن تضل إحداهما } ، والضلال سلوك غير القصد ، ضل عن الطريق سلك غير جادتها ، والضلال الحيرة ، والتردد ، ومنه قيل لحجر أملس يردده الماء في الوادي ضلضلة ، وقد فسر الضلال في القرآن بعدم العلم بتفصيل الأمور وبالمحبة ، وسيأتي ذلك في مواضعه ، والجر في غير قراءة الجمهور .

وروى الخليل عن ابن كثير النصب ، وهي قراءة عمر ، وابن مسعود ، وعلي ، وعبد الله بن الزبير .

فالجر على البدل من الذين ، عن أبي علي ، أو من الضمير في عليهم ، وكلاهما ضعيف ، لأن غيرا أصل وضعه الوصف ، والبدل بالوصف ضعيف ، أو على النعت عن سيبويه ، ويكون إذ ذاك غير تعرفت بما أضيفت إليه ، إذ هو معرفة على ما نقله سيبويه ، في أن كل ما أضافته غير محضة قد تتمحض فيتعرف إلا في الصفة المشبهة ، أو على ما ذهب إليه ابن السراج ، إذ وقعت غير على مخصوص لا شائع ، أو على أن الذين أريد بهم الجنس لا قوم بأعيانهم .

قالوا كما وصفوا المعرف بال الجنسية بالجملة ، وهذا هدم لما اعتزموا عليه من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ، ولا أختار هذا المذهب وتقرير فساده في النحو والنصب على الحال من الضمير في عليهم ، وهو الوجه أو من الذين قاله المهدوي وغيره ، وهو خطأ ، لأن الحال من المضاف إليه الذي لا موضع له لا يجوز ، أو على الاستثناء ، قاله الأخفش ، والزجاج وغيرهما ، وهو استثناء منقطع ، إذ لم يتناوله اللفظ السابق ، ومنعه القراء من أجل لا في قوله { ولا الضالين } ، ولم يسوغ في النصب غير الحال ، قال لأن لا ، لا تزاد إلا إذا تقدم النفي ، نحو قول الشاعر :

ما كان يرضى رسول الله فعلهم . . . *** والطيبان أبو بكر ولا عمر

ومن ذهب إلى الاستثناء جعل لا صلة ، أي زائدة مثلها في قوله تعالى : { ما منعك أن لا تسجد } وقول الراجز :

فما ألوم البيض أن لا تسخرا . . .

وقول الأحوص :

ويلجئني في اللهو أن لا أحبه *** واللهو داع دائب غير غافل

قال الطبري أي أن تسخر وأن أحبه ، وقال غيره معناه إرادة أن لا أحبه ، فلا فيه متمكنة ، يعني في كونها نافية لا زائدة ، واستدلوا أيضاً على زيادتها ببيت أنشده المفسرون ، وهو :

أبى جوده لا البخل واستعجلت به *** نعم من فتى لا يمنع الجود قائله

وزعموا أن لا زائدة ، والبخل مفعول بأبي ، أي أبى جوده البخل ، ولا دليل في ذلك ، بل الأظهر أن لا مفعول بأبي ، وأن لفظة ( لا ) لا تتعلق بها ، وصار إسناداً لفظياً ، ولذلك قال : واستعجلت به نعم ، فجعل نعم فاعلة بقوله استعجلت ، وهو إسناد لفظي ، والبخل بدل من لا أو مفعول من أجله ، وقيل انتصب غير بإضمار أعني وعزى إلى الخليل ، وهذا تقدير سهل ، وعليهم في موضع رفع بالمغضوب على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وفي إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل ، إذا حذف خلاف ذكر في النحو .

ومن دقائق مسائله مسألة يغني فيها عن خبر المبتدأ ذكرت في النحو ، ولا في قوله : { ولا الضالين } لتأكيد معنى النفي ، لأن غير فيه النفي ، كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين ، وعين دخولها العطف على قوله المغضوب عليهم لمناسبة غير ، ولئلا يتوهم بتركها عطف الضالين على الذين .

وقرأ عمر وأبي وغير الضالين ، وروي عنهما في الراء في الحرفين النصب والخفض ، ويدل على أن المغضوب عليهم هم غير الضالين ، والتأكيد فيها أبعد ، والتأكيد في لا أقرب ، ولتقارب معنى غير من معنى لا ، أتى الزمخشري بمسألة ليبين بها تقاربهما فقال : وتقول أنا زيداً غير ضارب ، مع امتناع قولك أنا زيداً مثل ضارب ، لأنه بمنزلة قولك أنا زيداً لا ضارب ، يريد أن العامل إذا كان مجروراً بالإضافة فمعموله لا يجوز أن يتقدم عليه ولا على المضاف ، لكنهم تسمحوا في العامل المضاف إليه غير ، فأجازوا تقديم معموله على غير إجراء لغير مجرى لا ، فكما أن لا يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها ، فكذلك غير .

وأوردها الزمخشري على أنها مسألة مقررة مفروغ منها ، ليقوي بها التناسب بين غير ولا ، إذ لم يذكر فيها خلافاً .

وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري مذهب ضعيف جداً ، بناه على جواز أنا زيداً لا ضارب ، وفي تقديم معمول ما بعد لا عليها ثلاثة مذاهب ذكرت في النحو ، وكون اللفظ يقارب اللفظ في المعنى لا يقضى له بأن يجري أحكامه عليه ، ولا يثبت تركيب إلا بسماع من العرب ، ولم يسمع أنا زيداً غير ضارب .

وقد ذكر أصحابنا قول من ذهب إلى جواز ذلك وردوه ، وقدر بعضهم في غير المغضوب محذوفاً ، قال التقدير غير صراط المغضوب عليهم ، وأطلق هذا التقدير فلم يقيده بجر غير ولا نصبه ، وهذا لا يتأتى إلا بنصب غير ، فيكون صفة لقوله الصراط ، وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف ، والأصل العكس ، أو صفة للبدل ، وهو صراط الذين ، أو بدلاً من الصراط ، أو من صراط الذين ، وفيه تكرار الإبدال ، وهي مسألة لم أقف على كلام أحد فيها ، إلا أنهم ذكروا ذلك في بدل النداء ، أو حالاً من الصراط الأول أو الثاني .

وقرأ أيوب السختياني : ولا الضألين ، بإبدال الألف همزة فراراً من التقاء الساكنين .

وحكى أبو زيد دأبة وشأبة في كتاب الهمز ، وجاءت منه ألفاظ ، ومع ذلك فلا ينقاس هذا الإبدال لأنه لم يكثر كثرة توجب القياس ، نص على أنه لا ينقاس النحويون ، قال أبو زيد : سمعت عمرو بن عبيد يقرأ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن ، فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة .

قال أبو الفتح : وعلى هذه اللغة قول كثير :

إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت . . .

وقول الآخر :

وللأرض إما سودها فتجلت *** بياضاً وإما بيضها فادهأمت

وعلى ما قال أبو الفتح إنها لغة ، ينبغي أن ينقاس ذلك ، وجعل الإنعام في صلة الذين ، والغضب في صلة أل ، لأن صلة الذين تكون فعلاً فيتعين زمانه ، وصلة أل تكون اسماً فينبهم زمانه ، والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله عليه وتحقق ذلك ، وكذلك أتى بالفعل ماضياً وأتى بالاسم في صلة أن ليشمل سائر الأزمان ، وبناه للمفعول ، لأن من طلب منه الهداية ونسب الأنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه ، لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان ، فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام ، وليكون المغضوب توطئة لختم السورة بالضالين لعطف موصول على موصول مثله لتوافق آخر الآي .

والمراد بالإنعام ، الإنعام الديني ، والمغضوب عليهم والضالين عام في كل من غضب عليه وضل .

وقيل المغضوب عليهم : اليهود ، والضالّون النصارى ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وابن زيد .

وروي هذا عن عدي بن حاتم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا صح هذا وجب المصير إليه ، وقيل اليهود والمشركون ، وقيل غير ذلك .

وقد روي في كتب التفسير في الغضب والضلال قيود من المتصوفة لا يدل اللفظ عليها ، كقول بعضهم غير المغضوب عليهم ، بترك حسن الأدب في أوقات القيام بخدمته ، ولا الضالين ، برؤية ذلك ، وقيل غير هذا .

والغضب من الله تعالى إرادة الانتقام من العاصي لأنه عالم بالعبد قبل خلقه وقبل صدور المعصية منه ، فيكون من صفات الذات أو إحلال العقوبة به ، فيكون من صفات الأفعال ، وقدم الغضب على الضلال ، وإن كان الغضب من نتيجة الضلال ضل عن الحق فغضب عليه لمجاورة الأنعام ، ومناسبة ذكره قرينة ، لأن الإنعام يقابل بالانتقام ، ولا يقابل الضلال الإنعام ؛ فالإنعام إيصال الخير إلى المنعم عليه ، والانتقام إيصال الشر إلى المغضوب عليه ، فبينهما تطابق معنوي ، وفيه أيضاً تناسب التسجيع ، لأن قوله ولا الضالين ، تمام السورة ، فناسب أواخر الآي ، ولو تأخر الغضب ، ومتعلقه لما ناسب أواخر الآي .

وكان العطف بالواو الجامعة التي لا دلالة فيها على التقديم والتأخير لحصول هذا المعنى من مغايرة جمع الوصفين ، الغضب عليه ، والضلال لمن أنعم الله عليه ، وإن فسر اليهود والنصارى .

فالتقديم إما للزمان أو لشدة العداوة ، لأن اليهود أقدم وأشد عداوة من النصارى .

ختام السورة:

وقد انجر في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلا من كان توغل في فهم لسان العرب ، ورزق الحظ الوافر من علم الأدب ، وكان عالماً بافتنان الكلام ، قادراً على إنشاء النثار البديع والنظام .

وأما من لا اطلاع له على كلام العرب ، وجسا طبعه حتى عن الفقرة الواحدة من الأدب ، فسمعه عن هذا الفن مسدود ، وذهنه بمعزل عن هذا المقصود .

قالوا : وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع :

النوع الأول : حسن الافتتاح وبراعة المطلع ، فإن كان أولها بسم الله الرحمن الرحيم ، على قول من عدها منها ، فناهيك بذلك حسناً إذ كان مطلعها ، مفتتحاً باسم الله ، وإن كان أولها الحمد لله ، فحمد الله والثناء عليه بما هو أهله ، ووصفه بماله من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام ، وقدم بين يدي النثر والنظام ، وقد تكرر الافتتاح بالحمد في كثير من السور ، والمطالع تنقسم إلى حسن وقبيح ، والحسن إلى ظاهر وخفي على ما قسم في علم البديع .

النوع الثاني : المبالغة في الثناء ، وذلك لعموم أل في الحمد على التفسير الذي مر .

النوع الثالث : تلوين الخطاب على قول بعضهم ، فإنه ذكر أن الحمد لله صيغته صيغة الخبر ، ومعناه الأمر ، كقوله : { لا ريب فيه } ومعناه النهي .

النوع الرابع : الاختصاص باللام التي في لله ، إذ دلت على أن جميع المحامد مختصة به ، إذ هو مستحق لها وبالإضافة في ملك يوم الدين لزوال الأملاك والممالك عن سواه في ذلك اليوم ، وتفرده فيه بالملك والملك ، قال تعالى : { لمن الملك اليوم } ولأنه لا مجازي في ذلك اليوم على الأعمال سواه .

النوع الخامس : الحذف ، وهو على قراءة من نصب الحمد ظاهر ، وتقدم ، هل يقدر من لفظ الحمد أو من غير لفظه ؟ قال بعضهم ؟ ومنه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد ، وهو الذي يقدر بكائن أو مستقر ، قال : ومنه حذف صراط من قوله غير المغضوب ، التقدير غير صراط المغضوب عليهم ، وغير صراط الضالين ، وحذف سورة إن قدرنا العامل في الحمد إذا نصبناه ، اذكروا أو اقرأوا ، فتقديره اقرأوا سورة الحمد ، وأما من قيد الرحمن ، والرحيم ، ونعبد ، ونستعين ، وأنعمت ، والمغضوب عليهم ، والضالين ، فيكون عنده في سورة محذوفات كثيرة .

النوع السادس : التقديم والتأخير ، وهو في قوله نعبد ، ونستعين ، والمغضوب عليهم ، والضالين ، وتقدم الكلام على ذلك .

النوع السابع : التفسير ، ويسمى التصريح بعد الإبهام ، وذلك في بدل صراط الذين من الصراط المستقيم .

النوع الثامن : الالتفات ، وهو في إياك نعبد وإياك نستعين ، اهدنا .

النوع التاسع : طلب الشيء ، وليس المراد حصوله بل دوامه ، وذلك في اهدنا .

النوع العاشر : سرد الصفات لبيان خصوصية في الموصوف أو مدح أو ذم .

النوع الحادي عشر : التسجيع ، وفي هذه السورة من التسجيع المتوازي ، وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والروي ، قوله تعالى : { الرحمن الرحيم اهدنا الصراط المستقيم } ، وقوله تعالى : { نستعين ولا الضالين } ، انقضى كلامنا على تفسير الفاتحة .

وكره الحسن أن يقال لها أم الكتاب ، وكره ابن سيرين أن يقال لها أم القرآن ، وجوزه الجمهور .

والإجماع على أنها سبع آيات إلا ما شذ فيه من لا يعتبر خلافه .

عدَّ الجمهور المكيون والكوفيون { بسم الله الرحمن الرحيم } آية ، ولم يعدوا { أنعمت عليهم } ، وسائر العادين ، ومنهم كثير من قراء مكة والكوفة لم يعدوها آية ، وعدوا { صراط الذين أنعمت عليهم } آية ، وشذ عمرو بن عبيد ، فجعل آية { إياك نعبد } ، فهي على عدة ثمان آيات ، وشذ حسين الجعفي ، فزعم أنها ست آيات .

قال ابن عطية : وقول الله تعالى : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } هو الفصل في ذلك .

ولم يختلفوا في أن البسملة في أول كل سورة ليست آية ، وشذ ابن المبارك فقال : إنها آية في كل سورة ، ولا أدري ما الملحوظ في مقدار الآية حتى نعرف الآية من غير الآية .

وذكر المفسرون عدد حروف الفاتحة ، وذكروا سبب نزولها ما لا يعد سبب نزول .

وذكروا أحاديث في فضل بسم الله الرحمن الرحيم ، الله أعلم بها ، وذكروا للتسمية أيضاً نزول ما لا يعد سبباً ، وذكروا أن الفاتحة تسمى الحمد ، وفاتحة الكتاب ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني ، والواقية ، والكافية ، والشفاء ، والشافية ، والرقية ، والكنز ، والأساس ، والنور ، وسورة الصلاة ، وسورة تعليم المسألة ، وسورة المناجاة ، وسورة التفويض .

وذكروا أن ما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة ، والكلام على هذا كله من باب التذييلات ، لا أن ذلك من علم التفسير إلا ما كان من تعيين مبهم أو سبب نزول أو نسخ بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذلك يضطر إليه علم التفسير .

وكذلك تكلموا على آمين ولغاتها ، والاختلاف في مدلولها ، وحكمها في الصلاة ، وليست من القرآن ، فلذلك أضربنا عن الكلام عليها صفحاً ، كما تركنا الكلام على الاستعاذة في أول الكتاب ، وقد أطال المفسرون كتبهم بأشياء خارجة عن علم التفسير حذفناها من كتابنا هذا ، إذا كان مقصودنا ما أشرنا إليه في الخطبة ، والله تعالى أعلم .