البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} (18)

الكدب بالدال المهملة الكدر ، وقيل : الطري . سول من السول ، ومعناه سهل ، وقيل : زين .

روي أنهم أخذوا سخلة أو جدياً فذبحوه ، ولطخوا قميص يوسف بدمه ، وقالوا : ليعقوب هذا قميص يوسف فأخذه ، ولطخ به وجهه وبكى ، ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا ارتاب ، فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا وقال لهم : متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا يخرق قميصه ؟ قيل : كان في قميص يوسف ثلاث آيات ، كان دليلاً ليعقوب على أن يوسف لم يأكله الذئب ، وألقاه على وجهه فارتد بصيراً ، ودليلاً على براءة يوسف حين قدّ من دبر .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : على قميصه ما محله ؟ ( قلت ) : محله النصب على الظرف ، كأنه قيل : وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول : جاء على جماله بأحمال .

( فإن قلت ) : هل يجوز أن يكون حالاً مقدمة ؟ ( قلت ) : لا ، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه انتهى .

ولا يساعد المعنى على نصب على على الظرف بمعنى فوق ، لأن العامل فيه إذ ذاك جاؤوا ، وليس الفوق ظرفاً لهم ، بل يستحيل أن يكون ظرفاً لهم .

وقال الحوفي : على متعلق بجاؤوا ، ولا يصح أيضاً .

وأما المثال الذي ذكره الزمخشري وهو جاء على جماله بأحمال فيمكن أن يكون ظرفاً للجائي ، لأنه تمكن الظرفية فيه باعتبار تبدله من جمل على جمل ، ويكون بأحمال في موضع الحال أي : مصحوباً بأحمال .

وقال أبو البقاء : على قميصه في موضع نصب حالاً من الدم ، لأن التقدير : جاؤوا بدم كذب على قميصه انتهى .

وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف ، ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب ، وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو ، والمعنى : يرشد إلى ما قاله أبو البقاء .

وقرأ الجمهور : كذب وصف لدم على سبيل المبالغة ، أو على حذف مضاف أي : ذي كذب ، لما كان دالاً على الكذب وصف به ، وإن كان الكذب صادراً من غيره .

وقرأ زيد بن علي : كذباً بالنصب ، فاحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحال ، وأن يكون مفعولاً من أجله .

وقرأت عائشة ، والحسن : كدب بالدال غير معجمة ، وفسر بالكدر ، وقيل : الطري ، وقيل : اليابس ، وقال صاحب اللوامح : ومعناه ذي كذب أي : أثر لأن الكذب هو بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها ، كالنقش ، ويسمى ذلك البياض الفوف ، فيكون هذا استعارة لتأثيره في القميص ، كتأثير ذلك في الأظافير .

قال : بل سولت هنا محذوف تقديره : لم يأكله الذئب ، بل سولت .

قال ابن عباس : أمرتكم أمراً ، وقال قتادة : زينت ، وقيل : رضيت أمراً أي : صينعاً قبيحاً .

وقيل : سهلت .

فصبر جميل أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أمثل .

وقرأ أبي ، والأشهب ، وعيسى بن عمر : فصبراً جميلاً بنصبهما ، وكذا هي في مصحف أبيّ ، ومصحف أنس بن مالك .

وروي كذلك عن الكسائي .

ونصبه على المصدر الخبري أي : فاصبر صبراً جميلاً .

قيل : وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ، ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر ، وكذلك يحسن النصب في قوله :

شكا إلي جملي طول السرى *** صبراً جميلاً فكلانا مبتلي

ويروى صبر جميل في البيت .

وإنما تصح قراءة النصب على أنْ يقدر أنّ يعقوب رجع إلى مخاطبة نفسه فكأنه قال : فاصبري يا نفسُ صبراً جميلاً .

وفي الحديث : « أن الصبر الجميل أنه الذي لا شكوى فيه » أي : إلى الخلق .

ألا ترى إلى قوله : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } وقيل : أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه ، وعبوس الجبين ، بل على ما كنت عليه معكم .

وقال الثوري : من الصبر أنْ لا تحدث بما يوجعك ولا بمصيبتك ولا تبكي نفسك .

والله المستعان أي : المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف ، والصبر على الرزية .

وجاءت سيارة قيل : كانوا من مدين قاصدين إلى مصر ، وقيل : في الكلام حذف تقديره : وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام ، وكان أخوه يهوذا يأتيه بالطعام خفية من إخوته .