البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا} (18)

اليقظ المتنبه وجمعه أيقاظ كعضد وأعضاد ، ويقاظ كرجل ورجال ورجل يقظان وامرأة يقظى . الرقاد معروف وسمي به علماً . الوصيد الفناء . وقيل : العتبة . وقيل : الباب . قال الشاعر :

بأرض فضاء لا يسد وصيدها   *** عليّ ومعروفي بها غير منكر

والخطاب في { وتحسبهم } وفي { وترى الشمس } لمن قدر له أنه يطلع عليهم .

قيل : كانوا مفتحة أعينهم وهم نيام فيحسبهم الناظر منتبهين .

قال أبو محمد بن عطية : ويحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدّة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغيير ، وذلك أن الغالب على النوام أن يكون لهم استرخاء وهيئات تقتضي النوم ، فيحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين ، ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في أن يحسب عليهم التيقظ ، والظاهر أن قوله { وتحسبهم أيقاظاً } إخبار مستأنف وليس على تقدير .

وقيل : في الكلام حذف تقديره لو رأيتهم لحسبتهم { أيقاظاً } .

والظاهر أن قوله { ونقلبهم } خبر مستأنف .

وقيل : إنما وقع الحسبان من جهة تقلبهم ، ولاسيما إذا كان من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين وفي قراءة الجمهور { ونقلبهم } بالنون مزيد اعتناء الله بهم حيث أسند التقليب إليه تعالى ، وأنه هو الفاعل ذلك .

وحكى الزمخشري أنه قرئ ويقلبهم بالياء مشدّداً أي يقلبهم الله .

وقرأ الحسن فيما حكى الأهوازي في الإقناع : ويقلبهم بياء مفتوحة ساكنة القاف مخففة اللام .

وقرأ الحسن فيما حكى ابن جنيّ : وتقلبهم مصدر تقلب منصوباً ، وقال : هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال : وترى أو تشاهد تقلبهم ، وعنه أيضاً أنه قرأ كذلك إلاّ أنه ضم الياء فهو مصدر مرتفع بالابتداء قاله أبو حاتم ، وذكر هذه القراءة ابن خالويه عن اليماني .

وذكر أن عكرمة قرأ وتقلبهم بالتاء باثنتين من فوق مضارع قلب مخففاً .

قيل : والفائدة في تقليبهم في الجهتين لئلا تُبلي الأرض ثيابهم وتأكل لحومهم ، فيعتقدوا أنهم ماتوا وهذا فيه بعد ، فإن الله الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو قادر على حفظ أجسامهم وثيابهم .

وعن ابن عباس : لو مستهم الشمس لأحرقتهم ، ولولا التقليب لأكلتهم الأرض انتهى .

و { ذات } بمعنى صاحبة أي جهة { ذات اليمين } .

ونقل المفسرون الخلاف في أوقات تقليبهم وفي عدد التقليبات ، عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وقتادة ، ومجاهد ، وابن عياض بأقوال متعارضة متناقضة ضربنا عن نقلها صفحاً وكذلك لم نتعرض لاسم كلبهم ولا لكونه كلب زرع أو غيره ، لأن مثل العدد والوصف والتسمية لا يدرك بالعقل وإنما يدرك بالسمع ، والسمع لا يكون في مثل هذا إلاّ عن الأنبياء أو الكتب الإلهية ، ويستحيل ورود هذا الاختلاف عنها .

والظاهر أن قوله { وكلبهم } أريد به الحيوان المعروف ، وأبعد من ذهب إلى أنه أسد ، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم ، أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم .

وحكى أبو عمر والزاهد غلام ثعلب أنه قرئ وكالئهم اسم فاعل من كلأ إذا حفظ ، فينبغي أن يحمل على أنه الكلب لحفظه للإنسان .

قيل : ويحتمل أن يراد بالكالئ الرجل على ما روي إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريئة المستخفي بنفسه .

وقرأ أبو جعفر الصادق : وكالبهم بالباء بواحدة أي صاحب كلبهم ، كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر .

وقال الزمخشري : { باسط ذراعيه } حكاية حال ماضية ، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ، وإضافته إذا أضيف حقيقة معرفة كغلام زيد إلاّ إذا نويت حكاية الحال الماضية انتهى .

وقوله لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ليس إجماعاً ، بل ذهب الكسائي وهشام ، ومن أصحابنا أبو جعفر بن مضاء إلى أنه يجوز أن يعمل ، وحجج الفريقين مذكورة في علم النحو .

والوصيد قال ابن عباس : الباب .

وعنه أيضاً وعن مجاهد وابن جبير : الفناء .

وعن قتادة : الصعيد والتراب .

وقيل : العتبة .

وعن ابن جبير أيضاً التراب .

والخطاب في { لو اطلعت } لمن هو له في قوله { وترى الشمس } { وتحسبهم أيقاظاً } .

وقرأ ابن وثاب والأعمش : { لو اطلعت } بضم الواو وصلاً .

وقرأ الجمهور : بكسرها ، وقد ذكر ضمها عن شيبة وأبي جعفر ونافع وتملية الرعب لما ألقى الله عليهم من الهيبة والجلال ، فمن رام الإطلاع عليهم أدركته تلك الهيبة .

ومعنى { لوليت منهم } أعرضت بوجهك عنهم .

وأوليتهم كشحك ، وانتصب { فراراً } على المصدر إما لفررت محذوفة ، وإما { لوليت } لأنه بمعنى لفررت ، وإما مفعولاً من أجله .

وانتصب { رعباً } على أنه مفعول ثان ، وأبعد من ذهب إلى أنه تمييز منقول من المفعول كقوله { وفجرنا الأرض عيوناً } على مذهب من أجاز نقل التمييز من المفعول ، لأنك لو سلطت عليه الفعل ما تعدى إليه تعدي المفعول به ، بخلاف ، { وفجرنا الأرض عيوناً } وقيل : سبب الرعب طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغيير أطمارهم .

وقيل : لإظلام المكان وإيحاشه ، وليس هذان القولان بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا { لبثنا يوماً أو بعض يوم } ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلاّ العالم والبناء لا حاله في نفسه ، ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الأيقاظ { وهم في فجوة } تتخرقه الرياح والمكان الذي بهذه الصورة لا يكون موحشاً .

وقرأ ابن عباس ، والحرميان ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة بتشديد اللام والهمزة .

وقرأ باقي السبعة بتخفيف اللام والهمزة .

وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وإبدال الياء من الهمزة .

وقرأ الزهري بتخفيف اللام والإبدال ، وتقدم الخلاف في { رعباً } في آل عمران .

وقرأ هنا بضم العين أبو جعفر وعيسى .