البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا} (77)

الجدار معروف ويجمع على جدر وجدران .

انقض سقط ، ومن أبيات معاياة الأعراب :

مرّ كما انقضّ على كوكب***عفريت جن في الدجى الأجدل

والقرية التي أتيا أهلها إنطاكية أو الأبلة أو بجزيرة الأندلس وهي الجزيرة الخضراء ، أو برقة أو أبو حوران بناحية أذربيجان ، أو ناصرة من أرض الروم أو قرية بأرمينية أقوال مضطربة بحسب اختلافهم في أي ناحية من الأرض كانت القصة والله أعلم بحقيقة ذلك .

وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله تعالى .

وتكرر لفظ { أهل } على سبيل التوكيد ، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد وهو أنهما حين { أتيا أهل القرية } لم يأتيا جميع أهل القرية إنما أتيا بعضهم ، فلما قال { استطعما } احتمل أنهما لم يستطعما إلاّ ذلك البعض الذي أتياه فجيء بلفظ أهلها ليعم جميعهم وأنهم يتبعونهم واحداً واحداً بالاستطعام ، ولو كان التركيب استطعماهم لكان عائداً على البعض المأتي .

وقرأ الجمهور { يضيّفوهما } بالتشديد من ضيف .

وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بكسر الضاد وإسكان الياء من أضاف ، كما تقول ميّل وأمال ، وإسناد الإرادة إلى الجدار من المجاز البليغ والاستعارة البارعة وكثيراً ما يوجد في كلام العرب إسناد أشياء تكون من أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل من الحيوان وإلى الجماد ، أو الحيوان الذي لا يعقل مكان العاقل لكان صادراً منه ذلك الفعل .

وقد أكثر الزمخشري وغيره من إيراد الشواهد على ذلك ومن له أدنى مطالعة لكلام العرب لا يحتاج إلى شاهد في ذلك .

قال الزمخشري : ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر لأن ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة ، فتمحل ليرده إلى ما هو عنده أصح وأفصح ، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز أدخل في الإعجاز انتهى .

وما ذكره أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني من أنه ينكر المجاز في القرآن لعله لا يصح عنه ، وكيف يكون ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر .

وقرأ الجمهور { ينقض } أي يسقط من انقضاض الطائر ، ووزنه انفعل نحو انجر .

قال صاحب اللوامح : من القضة وهي الحصى الصغار ، ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى ، فعلى هذا { يريد أن ينقض } أي يتفتت فيصير حصاة انتهى .

وقيل : وزنه أفعّل من النقض كاحمر .

وقرأ أبي { ينقض } بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنياً للمفعول من نقضته وهي مروية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .

وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش يريد لينقض كذلك إلاّ أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام .

وقرأ علي وعكرمة وأبو شيخ خيوان بن خالد الهنائي وخليد بن سعد ويحيى بن يعمر ينقاص بالصاد غير معجمة مع الألف ، ووزنه ينفعل اللازم من قاص يقيص إذا كسرته تقول : قصيته فانقاص .

قال ابن خالويه : وتقول العرب انقاصت السنّ إذا انشقت طولاً .

قال ذو الرمة : منقاص ومنكثب .

وقيل : إذا تصدعت كيف كان .

ومنه قول أبي ذؤيب :

فراق كقص السن فالصبر إنه***لكل أناس عشرة وحبور

وقرأ الزهري : ينقاض بألف وضاد معجمة وهو من قولهم : قضته معجمة فانقاض أي هدمته فانهدم .

قال أبو عليّ : والمشهور عن الزهري بصاد غير معجمة .

{ فأقامه } الظاهر أنه لم يهدمه وبناه كما ذهب إليه بعضهم من أنه هدمه وقعد يبنيه .

ووقع هذا في مصحف عبد الله وأيد بقوله { لاتخذت عليه أجراً } لأن بناءه بعد هدمه يستحق عليه أجراً .

وقال ابن جبير : مسحه بيده وأقامه فقام .

وقيل : أقامه بعمود عمده به .

وقال مقاتل : سوّاه بالشيد أي لبسه به وهو الجيار .

وعن ابن عباس : دفعه بيده فاستقام وهذا أليق بحال الأنبياء .

قال الزمخشري : كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة فلم يجدا مواسياً ، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن { قال : لو شئت لاتخذت عليه أجراً } وطلبت على عملك جعلاً حتى تنتعش به وتستدفع الضرورة انتهى .

قال ابن عطية : وقوله { لو شئت لاتخذت عليه أجراً } وإن لم يكن سؤالاً ففي ضمنه الإنكار لفعله ، والقول بتصويب أخذ الأجر وفي ذلك تخطئة ترك الأجر انتهى .

وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وابن بحرية ولاتخذت بتاء مفتوحة وخاء مكسورة ، يقال تخذ واتخذ نحو تبع واتبع ، افتعل من تخذ وأدغم التاء في التاء .

قال الشاعر :

وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها***نسيفاً كأفحوص القطاة المطرق

والتاء أصل عند البصريين وليس من الأخذ ، وزعم بعضهم أن الاتخاذ افتعال من الأخذ وأنهم ظنوا التاء أصلية فقالوا في الثلاثي تخذ كما قالوا تقي من اتقى .

والظاهر أن هذا إشارة إلى قوله { لو شئت } أي هذا الإعراض سبب الفراق { بيني وبينك } على حسب ما سبق من ميعاده .

أنه قال { إن سألتك } وهذه الجملة وإن لم تكن سؤالاً فإنها تتضمنه ، إذ المعنى ألم تكن تتخذ عليه أجراً لاحتياجنا إليه .

وقال الزمخشري : قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول : هذا أخوك فلا يكون هذا إشارة إلى غير الأخ انتهى .

وفيما قاله نظر .