الوسط : اسم لما بين الطرفين وصف به ، فأطلق على الخيار من الشيء ، لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل ، ولكونه اسماً كان للواحد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد .
وقال حبيب : كانت هي الوسط المحميّ ، فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفاً .
ووسط الوادي : خير موضع فيه ، وأكثره كلأً وماء .
ويقال : فلان من أوسط قومه ، وأنه لواسطة قومه ، ووسط قومه : أي من خيارهم ، وأهل الحسب فيهم .
وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم *** إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وأما وسط ، بسكون السين ، فهو طرف المكان ، وله أحكام مذكورة في النحو .
أضاع الرجل الشيء : أهمله ولم يحفظه ، والهمزة فيه للنقل من ضاع يضيع ضياعاً ، وضاع المسك يضوع : فاح .
{ وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } : الكاف : للتشبيه ، وذلك : اسم إشارة ، والكاف في موضع نصب ، إما لكونه نعتاً لمصدر محذوف ، وإما لكونه حالاً .
والمعنى : وجعلناكم أمة وسطاً جعلاً مثل ذلك ، والإشارة بذلك ليس إلى ملفوظ به متقدم ، إذ لم يتقدم في الجملة السابقة اسم يشار إليه بذلك ، لكن تقدم لفظ يهدي ، وهو دال على المصدر ، وهو الهدى ، وتبين أن معنى { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } : يجعله على صراط مستقيم ، كما قال تعالى : { من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } قابل تعالى الضلال بالجعل على الصراط المستقيم ، إذ ذلك الجعل هو الهداية ، فكذلك معنى الهدى هنا هو ذلك الجعل .
وتبين أيضاً من قوله : { قل لله المشرق والمغرب } إلى آخره ، أن الله جعل قبلتهم خيراً من قبلة اليهود والنصارى ، أو وسطاً .
فعلى هذه التقادير اختلفت الأقاويل في المشار إليه بذلك .
فقيل : المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطاً بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ، أي أنعمنا عليكم بجعلكم أمة وسطاً ، مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم ، فتكون الإشارة بذلك إلى المصدر الدال عليه يهدي ، أي جعلناكم أمة خياراً مثل ما هديناكم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من الحق .
وقيل : المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطاً بجعلهم على الصراط المستقيم ، أي جعلناكم أمة وسطاً مثل ذلك الجعل الغريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية ، لأنه قال : { يهدي من يشاء } ، فلا تقع الهداية إلا لمن شاء الله تعالى .
وقيل : المعنى كما جعلنا قبلتكم خير القبل ، جعلناكم خير الأمم .
وقيل : المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب ، جعلناكم أمة وسطاً .
وقيل : المعنى كما جعلنا الكعبة وسط الأرض ، كذلك جعلناكم أمة وسطاً ، دون الأنبياء ، وفوق الأمم ، وأبعد من ذهب إلى أن ذلك إشارة إلى قوله تعالى : { ولقد اصطفيناه في الدنيا } أي مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطاً .
ومعنى وسطاً : عدولاً ، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تظاهرت به عبارة المفسرين .
وإذا صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب المصير في تفسير الوسط إليه .
وقيل : خيار ، أو قيل : متوسطين في الدين بين المفرط والمقصر ، لم يتخذوا واحداً من الأنبياء إلهاً ، كما فعلت النصارى ، ولا قتلوه ، كما فعلت اليهود .
واحتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا : أخبر الله عن عدالة هذه الأمة وعن خيرتهم ، فلو أقدموا على شيء ، وجب أن يكون قولهم حجة .
{ لتكونوا شهداء على الناس } : تقدم شرح الشهادة في قوله : { وادعوا شهداءكم } وفي شهادتهم هنا أقوال : أحدها : ما عليه الأكثر من أنها في الآخرة ، وهي شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم الذين كذبوهم ، وقد روي ذلك نصاً في الحديث في البخاري وغيره .
وقال في المنتخب : وقد طعن القاضي في الحديث من وجوه ، وذكروا وجوهاً ضعيفة ، وأظنه عنى بالقاضي هنا القاضي عبد الجبار المعتزلي ، لأن الطعن في الحديث الثابت الصحيح لا يناسب مذاهب أهل السنة .
وقيل : الشهادة تكون في الدنيا .
واختلف قائلوا ذلك ، فقيل : المعنى يشهد بعضكم على بعض إذا مات ، كما جاء في الحديث من أنه مر بجنازة فأثنى عليها خيراً ، وبأخرى فأثنى عليها شرًّا ، فقال الرسول : « وجبت » ، يعني الجنة والنار ، « أنتم شهداء الله في الأرض » ثبت ذلك في مسلم .
وقيل : الشهادة الاحتجاج ، أي لتكونوا محتجين على الناس ، حكاه الزّجاج .
وقيل : معناه لتنقلوا إليهم ما علمتموه من الوحي والدين كما نقله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وتكون على بمعنى اللام ، كقوله : { وما ذبح على النصب } أي للنصب .
وقيل : معناه ليكون إجماعكم حجة ، ويكون الرسول عليكم شهيداً ، أي محتجاً بالتبليغ .
وقيل : لتكونوا شهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم على الأمم ، اليهود والنصارى والمجوس ، قاله مجاهد .
وقيل : شهداء على الناس في الدنيا ، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار .
وأسباب هذه الشهادة ، أي شهادة هذه العدول أربعة : بمعاينة ، كالشهادة على الزنا ، وبخبر الصادق ، كالشهادة على الشهادة ؛ وبالاستفاضة ، كالشهادة على الأنساب ؛ وبالدلالة ، كالشهادة على الأملاك ، وكتعديل الشاهد وجرحه .
وقال ابن دريد : الإشهاد أربعة : الملائكة بإثبات أعمال العباد ، والأنبياء ، وأمة محمد ، والجوارح . انتهى .
ولما كان بين الرؤية بالبصر والإدراك بالبصيرة مناسبة شديدة ، سمي إدراك البصيرة : مشاهدة وشهوداً ، وسمي العارف : شاهداً ومشاهداً ، ثم سميت الدلالة على الشيء : شهادة عليه ، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً .
وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات .
قالوا : وفي هذه الآية دلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واستدل بقوله : { أمة وسطاً } ، أي عدولاً خياراً .
وقال بقية العلماء : العدالة وصف عارض لا يثبت إلا ببينة ، وقد اختار المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة ما عليه الجمهور ، لتغير أحوال الناس ، ولما غلب عليهم في هذا الوقت ، وهذا الخلاف في غير الحدود والقصاص .
{ ويكون الرسول عليكم شهيداً } : لا خلاف أن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي شهادته أقوال : أحدها : شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه .
الثاني : شهادته عليهم بإيمانهم .
الرابع : تزكيته لهم وتعديله إياهم ، قاله عطاء ، قال : هذه الأمة شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين ، والرسول شهيد معدل مزك لهم .
وقد تقدم أيضاً ما روى البخاري في ذلك .
واللام في قوله : لتكونوا هي ، لام كي ، أو لام الصيروة عن من يرى ذلك ، فمجيء ما بعدها سبباً لجعلهم خياراً ، أو عدولاً ظاهراً .
وأما كون شهادة الرسول عليهم سبباً لجعلهم خياراً ، فظاهر أيضاً ، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية ، أو بأي معنى فسرت شهادته ، ففي ذلك الشرف التامّ لهم ، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليه .
ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له ، جيء بكلمة على ، وتأخر حرف الجر في قوله : على الناس ، عما يتعلق به .
جاء ذلك على الأصل ، إذ العامل أصله أن يتقدّم على المعمول .
وأما في قوله : { عليكم شهيداً } فتقدّمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة ، ولأن شهيداً أشبه بالفواصل والمقاطع من قوله : عليكم ، فكان قوله : شهيداً ، تمام الجملة ، ومقطعها دون عليكم .
وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أوّلاً ، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم ؛ وتأخير على : لاختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم ، فهو مبني على مذهبه : أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص .
وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم ، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان .
وتقدّم ذكر تعليل جعلهم وسطاً بكونهم شهداء ، وتأخر التعليل بشهادة الرسول ، لأنه كذلك يقع .
ألا ترى أنهم يشهدون على الأمم ، ثم يشهد الرسول عليهم ، على ما نص في الحديث من أنهم إذا ناكرت الأمم رسلهم وشهدت أمّة محمد عليهم بالتبليغ ، يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمّته ، فيزكيهم ويشهد بصدقهم ؟ وإن فسرت الشهادتان بغير ذلك مما يمكن أن تكون شهادة الرسول متقدّمة في الزمان ، فيكون التأخير لذكر شهادة الرسول من باب الترقي ، لأن شهادة الرسول عليهم أشرف من شهادتهم على الناس .
وأتى بلفظ الرسول ، لما في الدلالة بلفظ الرسول على اتصافه بالرسالة من عند الله إلى أمّته .
وأتى بجمع فعلاء ، الذي هو جمع فعيل وبشهيد ، لأن ذلك هو للمبالغة دون قوله : شاهدين ، أو إشهاداً ، أو شاهداً .
وقد استدل بقوله : { ويكون الرسول عليكم شهيداً } على أن التزكية تقتضي قبول الشهادة ، فإن أكثر المفسرين قالوا : معنى شهيداً : مزكياً لكم ، قالوا : وعليكم تكون بمعنى : لكم .
{ وما جعلنا القبلة التي كانت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } : جعل هنا : بمعنى صير ، فيتعدى لمفعولين : أحدهما القبلة ، والآخر { التي كنت عليها } .
والمعنى : وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أوّلاً عليها إلا لنعلم ، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أوّلاً ، لأنه كان يصلي أولاً إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، ثم صار يصلي إلى الكعبة .
وتكون القبلة : هو المفعول الثاني ، والتي كنت عليها : هو المفعول الأول ، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال .
فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول ، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني .
ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفاً ، وجعلت الجاهل عالماً ؟ والمعنى هنا على هذا التقدير : وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً ، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس ، قبلتك الآن إلا لنعلم .
ووهم الزمخشري في ذلك ، فزعم أن التي كنت عليها : هو المفعول الثاني لجعل ، قال : التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جعل .
تريد : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة ، تألفاً لليهود ، ثم حوّل إلى الكعبة ، فيقول : وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة ، يعني : وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاءً ، انتهى ما ذكره .
وقد أوضحنا أن التي كنت عليها : هو المفعول الأول .
وقيل : هذا بيان لحكمة جعل بيت المقدس قبلة .
والمعنى : وما جعلنا متوجهك بيت المقدس إلا لنعلم ، فيكون ذلك على معنى : أن استقبالك بيت المقدس هو أمر عارض ، ليتميز به الثابت على دينه من المرتدّ .
وكل واحد من الكعبة وبيت المقدس صالح بأن يوصف بقوله : التي كنت عليها ، لأنه قد كان متوجهاً إليهما في وقتين .
وقيل : التي كنت عليها صفة للقبلة ، وعلى هذا التقدير اختلفوا في المفعول الثاني ، فقيل : تقديره : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لنعلم .
وقيل : التقدير : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة إلا لنعم .
وقيل : ذلك على حذف مضاف ، أي وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ، ويكون المفعول الثاني على هذا قوله : لنعلم ، كما تقول : ضرب زيد للتأديب ، أي كائن وموجود للتأديب ، أي بسبب التأديب .
وعلى كون التي صفة ، يحتمل أن يراد بالقبلة : الكعبة ، ويحتمل أن يراد بيت المقدس ، إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه .
وقال ابن عباس : القبلة في الآية : الكعبة ، وكنت بمعنى : أنت ، كقوله تعالى : { كنتم خير أمة } بمعنى : أنتم . انتهى .
وهذا من ابن عباس ، إن صح تفسير معنى ، لا تفسير إعراب ، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر ، وهذا لم يذهب إليه أحد .
وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير ، ما نقله النحويون ، أن كان تكون بمعنى صار ، ومن صار إلى شيء واتصف به ، صح من حيث المعنى نسبة ذلك الشيء إليه .
فإذا قلت : صرت عالماً ، صح أن تقول : أنت عالم ، لأنك تخبر عنه بشيء هو فيه .
فتفسير ابن عباس : كنت بأنت ، هو من هذا القبيل ، فهو تفسير معنى ، لا تفسير إعراب .
ويؤكد هذا قوله بعد : { قَد تبين الرشد من الغي } يعني : ظهرت الدلائل ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر والإلجاء وليس بجائز لأنه ينافي التكليف ، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة ، ولذلك قال الزمخشري : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والإختيار ، ونحوه قوله : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على الأختيار .
والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده ، والألف واللام للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي : في دين الله .
{ قد تبين الرشد من الغيّ } أي : استبان الإيمان من الكفر ، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام .
وقرأ الجمهور : الرشد ، على وزن القفل ، والحسن : الرشد ، على وزن العنق .
وأبو عبد الرحمن : الرشد ، على وزن الجبل ، ورويت هذه أيضاً عن الشعبي ، والحسن ومجاهد .
وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن : الرشاد ، بالألف .
والجمهور على إدغام دال ، قد ، في : تاء ، تبين .
وقرئ شاذاً بالإظهار ، وتبين الرشد ، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان ، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين ، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه ، ولا موضع لها من الإعراب .
{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } الطاغوت : الشيطان .
قاله عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدّي .
أو : الساحر ، قاله ابن سيرين ، وأبو العالية .
أو : الكاهن ، قاله جابر ، وابن جبير ، ورفيع ، وابن جريح .
أو : ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك : كفرعون ، ونمروذ ، قاله الطبري .
وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً ، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها .
قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت . انتهى .
وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله ، لأن الكفر بها هو رفضها ، ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبهاً به ، سابقاً له قبل الإيمان ، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه .
وجواب الشرط : فقد استمسك ، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلاً في المعنى لأنه جواب الشرط ، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و : بالعروة ، متعلق باستمسك ، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك .
وقرأ الزهري : ليعلم ، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهذا لا يحتاج إلى تأويل ، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى ، فحذف وبنى الفعل للمفعول ، وعلم غير الله تعالى حادث ، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث ، وكان التقدير : ليعلم الرسول والمؤمنون .
وأتى بلفظ الرسول ، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله : { كنت عليها } ، فكان يكون الكلام من يتبعك ، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة .
وجاء الخطاب مكتنفاً بذكر الرسول مرّتين ، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة ، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة .
ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة ، أتى بلفظ الرسول ، ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض .
ولما كان التوجه إلى الكعبة توجهاً إلى المكان الذي ألفه الإنسان ، وله إلى ذلك نزوع ، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة ، فقيل : { التي كنت عليها } ، فهذه ، والله أعلم ، حكمة الالتفات هنا .
وقوله : { ينقلب على عقبيه } كناية عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل .
والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه ، فلذلك شبه المرتدّ في الدين به .
والمعنى : أنه كان متلبساً بالإيمان ، فلما حوّلت القبلة ، ارتاب فعاد إلى الكفر ، فهذا انقلاب معنوي ، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه .
وقوله : { على عقبيه } في موضع الحال ، أي ناكصاً على عقبيه ، ومعناه أنه رجع إلى ما كان عليه ، لم يخلّ في رجوعه بأنه عاد من حيث جاء إلى الحالة الأولى التي كان عليها ، فهو قد ولي عما كان أقبل عليه ، ومشى أدراجه التي تقدّمت له ، وذلك مبالغة في التباسه بالشيء الذي يوصله إلى الأمر الذي كان فيه أوّلاً .
قالوا : وقد اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة ، أو بسبب تحويلها .
فقيل : بالأول ، لأنه كان يصلي إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، فشق ذلك على العرب من حيث أنه ترك قبلتهم ثم صلى إلى الكعبة ، فشق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم .
وقال الأكثرون بالقول الثاني ، قالوا : لو كان محمد على يقين من أمره ، لما تغير رأيه .
وروي أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا : مرة هنا ومرة هنا ، وهذا أشبه ، لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بتعيين القبلة ، وقد وصفها الله بالكبر في قوله : { وإن كانت لكبيرة } .
وقرأ ابن أبي إسحاق : على عقبيه ، بسكون القاف وتسكين عين فعل ، اسماً كان أو فعلاً ، لغة تميمية ، وقد تقدّم ذكر ذلك .
{ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } : اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله : { وما جعلنا القبلة } ، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة ، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها ، وهي بيت المقدس ، قبل التحويل ، قاله أبو العالية والأخفش .
وقيل : يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس .
ومعنى كبيرة : أي شاقة صعبة ، ووجه صعوبتها أن ذلك مخالف للعادة ، لأن من ألف شيئاً ، ثم انتقل عنه ، صعب عليه الانتقال ، أو أن ذلك محتاج إلى معرفة النسخ وجوازه ووقوعه .
وإن هنا هي المخففة من الثقيلة ، دخلت على الجملة الناسخة .
واللام هي لام الفرق بين إن النافية والمخففة من الثقيلة ، وهل هي لام الابتداء ألزمت للفرق ، أم هي لام اجتلبت للفرق ؟ في ذلك خلاف ، هذا مذهب البصريين والكسائي والفراء وقطرب في إن التي يقول البصريون إنها مخففة من الثقيلة ، خلاف مذكور في النحو .
وقراءة الجمهور : لكبيرة بالنصب ، على أن تكون خبر كانت .
وقرأ اليزيدي : لكبيرة بالرفع ، وخرج ذلك الزمخشري على زيادة كانت ، التقدير : وإن هي لكبيرة ، وهذا ضعيف ، لأن كان الزائدة لا عمل لها ، وهنا قد اتصل بها الضمير فعملت فيه ، ولذلك استكن فيها .
وقد خالف أبو سعيد ، فزعم أنها إذا زيدت عملت في الضمير العائد على المصدر المفهوم منها ، أي كان هو ، أي الكون .
وكذلك أيضاً نوزع من زعم أن كان زائدة في قوله :
لاتصال الضمير به وعمل الفعل فيه ، والذي ينبغي أن تحمل القراءة عليه أن تكون لكبيرة خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : لهي كبيرة .
ويكون لام الفرق دخلت على جملة في التقدير ، تلك الجملة خبر لكانت ، وهذا التوجيه ضعيف أيضاً ، وهو توجيه شذوذ .
{ إلا على الذين هدى الله } ، هذا استثناء من المستثنى منه المحذوف ، إذ التقدير : وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الذين هدى الله ، ولا يقال في هذا إنه استثناء مفرغ ، لأنه لم يسبقه نفي أو شبهه ، إنما سبقه إيجاب .
ومعنى هدى الله ، أي هداهم لاتباع الرسول ، أو عصمهم واهتدوا بهدايته ، أو خلق لهم الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم ، أو وفقهم إلى الحق وثبتهم على الإيمان .
وهذه أقوال متقاربة ، وفيه إسناد الهداية إلى الله ، أي أن عدم صعوبة ذلك إنما هو بتوفيق من الله ، لا من ذوات أنفسهم ، فهو الذي وفقهم لهدايته .
{ وما كان الله ليضيع إيمانكم } : قيل : سبب نزول هذا أن جماعة ماتوا قبل تحويل القبلة ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، فنزلت .
وقيل : السائل أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور مع جماعة ، وهذا مشكل ، لأنه قد روي أن أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ماتا قبل تحويل القبلة .
وقد فسر الإيمان بالصلاة إلى بيت المقدس ، وكذلك ذكره البخاري والترمذي ، وقال ذلك ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي والربيع وغيرهم ، وكنى عن الصلاة بالإيمان لما كانت صادرة عنه ، وهي من شعبه العظيمة .
ويحتمل أن يقرّ الإيمان على مدلوله ، إذ هو يشمل التصديق في وقت الصلاة إلى بيت المقدس ، وفي وقت التحويل .
وذكر الإيمان ، وإن كان السؤال عن صلاة من صلى إلى بيت المقدس ، لأنه هو العمدة ، والذي تصح به الأعمال .
وقد كان لهم ثابتاً في حال توجههم إلى بيت المقدس وغيره ، فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمانكم ، فاندرج تحته متعلقاته التي لا تصح إلا به .
وكان ذكر الإيمان أولى من ذكر الصلاة ، لئلا يتوهم اندراج صلاة المنافقين إلى بيت المقدس ، وأتى بلفظ الخطاب ، وإن كان السؤال عمن مات على سبيل التغليب ، لأن المصلين إلى بيت المقدس لم يكونوا كلهم ماتوا .
وقرأ الضحاك : ليضيع ، بفتح الضاد وتشديد الياء ، وأضاع وضيع الهمزة ، والتضعيف ، كلاهما للنقل ، إذ أصل الكلمة ضاع .
وقال في المنتخب : لولا ذكر سبب نزول هذه الآية : لما اتصل الكلام بعضه ببعض .
ووجه تقرير الإشكال ، أن الذين لا يجوّزون النسخ إلا مع البداء يقولون : إنه لما تغير الحكم ، وجب أن يكون الحكم مفسدة ، أو باطلاً ، فوقع في قلوبهم ، بناء على هذا السؤال ، أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة .
فأجاب الله تعالى عن هذا الإشكال ، وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ، والأول كالثاني في أن المتمسك به قائم . انتهى .
وإذا كان الشك إنما تولد ممن يجوّز البداء على الله ، فكيف يليق ذلك بالصحابة ؟ والجواب : أنه لا يقع إلا من منافق ، فأخبر عن جواب سؤال المنافق ، أو جوِوب على تقدير خطور ذلك ببال صحابي لو خطر ، أو على تقدير اعتقاده أن التوجه إلى الكعبة أفضل .
وما ذكره في المنتخب من أنه لولا ذكر سبب نزول هذه الآية ، لما اتصل الكلام بعضه ببعض ، ليس بصحيح ، بل هو كلام متصل ، سواء أصح ذكر السبب أم لم يصح ، وذلك أنه لما ذكر قوله تعالى : { لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } ، كان ذلك تقسيماً للناس حالة الجعل إلى قسمين : متبع للرسول ، وناكص .
فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمان المتبع ، بل عمله وتصديقه ، قبل أن تحول القبلة ، وبعد أن تحوّل لا يضيعه الله ، إذ هو المكلف بما شاء من التكاليف ، فمن امتثلها ، فهو لا يضيع أجره .
ولما كان قد يهجس في النفس الاستطلاع إلى حال إيمان من اتبع الرسول في الحالتين ، أخبر تعال أنه لا يضيعه ، وأتى بكان المنفية بما الجائي بعدها لام الجحود ، لأن ذلك أبلغ من أن لا يأتي بلام الجحود .
فقولك : ما كان زيد ليقوم ، أبلغ مما : كان زيد يقوم ، لأن في المثال الأول : هو نفي للتهيئة والإرادة للقيام ، وفي الثاني : هو نفي للقيام .
ونفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل ، لأن نفي الفعل لا يستلزم نفي إرادته ، ونفي التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفي الفعل ، فلذلك كان النفي مع لام الجحود أبلغ .
وهكذا القول فيما ورد من هذا النحو في القرآن وكلام العرب .
وهذه الأبلغية إنما هي على تقدير مذهب البصريين ، فإنهم زعموا أن خبر كان التي بعدها لام الجحود محذوف ، وأن اللام بعدها إن مضمرة ينسبك منها مع الفعل بعدها مصدر ، وذلك الحرف متعلق بذلك الحرف المحذوف ، وقد صرّح بذلك الخبر في قول بعضهم :
ومذهب الكوفيين : أن اللام هي الناصبة ، وليست أن مضمرة بعده ، وأن اللام بعدها للتأكيد ، وأن نفس الفعل المنصوب بهذه اللام هو خبر كان ، فلا فرق بين : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إلا مجرد التأكيد الذي في اللام .
والكلام على هذين المذهبين مذكور في علم النحو .
{ إن الله بالناس لرءوف رحيم } : ختم هذه الآية بهذه الجملة ظاهر ، وهي جارية مجرى التعليل لما قبلها ، أي للطف رأفته وسعة رحمته ، نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين ، أو لم يجعل لها مشقة على الذين هداهم ، أو لا يضيع إيمان من آمن ، وهذا الأخير أظهر .
والألف واللام في بالناس يحتمل الجنس ، كما قال : { الله لطيف بعباده } { ورحمتي وسعت كل شيء } { وسعت كل شيء رحمة وعلماً } ويحتمل العهد ، فيكون المراد بالناس المؤمنين .
وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص : لرؤوف ، مهموزاً على وزن فعول حيث وقع ، قال الشاعر :
نطيع رسولنا ونطيع رباً***هو الرحمن كان بنا رؤوفاً
وقرأ باقي السبعة : لرؤوف ، مهموزاً على وزن ندس ، قال الشاعر :
يرى للمسلمين عليه حقاً***كحق الوالد الرؤوف الرحيم
وشر الظالمين فلا تكنه*** يقابل عمه الرؤوفُ الرحيمُ
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : لروف ، بغير همزٍ ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله ، ساكنة كانت أو متحركة .
ولما كان نفي الجملة السابقة مبالغاً فيها من حيث لام الجحود ، ناسب إثبات الجملة الخاتمة مبالغاً فيها ، فبولغ فيها بأن وباللام وبالوزن على فعول وفعيل ، كل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وكثرة الرأفة .
وتأخر الوصف بالرحمة لكونه فاصلة ، وتقدّم المجرور اعتناء بالمرؤوف بهم .
وقال القشيري : من نظر الأمر بعين التفرقة ، كبر عليه أمر التحويل ؛ ومن نظر بعين الحقيقة ، ظهر لبصيرته وجه الصواب .
{ وما كان الله ليضيع إيمانكم } : أي من كان مع الله في جميع الأحوال على قلب واحد ، فالمختلفات من الأحوال له واحدة ، فسواء غير ، أو قرّر ، أو أثبت ، أو بدل ، أو حقق ، أو حوّل ، فهم به له في جميع الأحوال .