الجوع : القحط ، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها : الغرث .
يقال : غرث يغرث غرثاً ، فهو غرث وغرثان ، قال :
مغرّثة زرقاً كأن عيونها *** من الذمر والإيحاء نوّار عضرس
وقد استعمل المحدثون في الغرث : الجوع اتساعاً .
{ ولنبلوكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات } : تقدم أن الابتلاء : هو الاختبار ، ليعلم ما يكون من حال المختبر ، وهذا مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى ، وإنما معناه هنا : الإجابة ، والضمير الذي للخطاب .
قيل : هو للصحابة فقط ، قاله عطاء .
خاطبهم بذلك بعد الهجرة ، وأخبرهم بذلك قبل وقوعه تطميناً لقلوبهم ، لأنه إذا تقدم العلم بالواقع ، كان قد استعد له ، بخلاف الأشياء التي تفاجىء ، فإنها أصعب على النفس ، وزيادة ثواب وأجر على ما يحصل لهم من انتظار المصيبة ، وإخباراً بمغيب يقع وفق ما أخبر ، وتمييزاً لمن أسلم مريداً وجه الله ممن نافق ، وازدياد إخلاص في حال البلاء على إخلاصه في حال العافية ، وحملاً لمن لم يسلم على النظر في دلائل الإسلام ، إذ رأى هؤلاء المبتلين صابرين على دينهم ثابتي الجأش فيه ، مع ما ابتلوا به .
وقيل : هؤلاء أهل مكة ، خاطبهم بذلك إعلاماً أنه أجاب دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم ، وليبقوا يتوقعون المصيبة ، فتضاعف عليهم المصيبات .
وقيل : هو خطاب للأمة ، ويكون آخر الزمان ، قال كعب : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة ، يكون هذا الإخبار تحذيراً وموعظة على الركون إلى الدنيا وزهرتها ، ويكون إخباراً بالمغيبات .
وقيل : الخطاب لا يراد به معين ، بل هو عام ، لا يتقيد بزمان ولا بمخاطب خاص ، فكأنه قيل : ولنصيبن بكذا ، فيكون في ذلك تحذير ، وأنه للصحابة وغيرهم .
وهذه الآية لها تعلق بقوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } الآية ، وقبلها : { واشكروا لي } ، والشكر يوجب زيادة النعم والإبتلاء بما ذكر ، ينافيه ظاهراً ، وتوجيهه : أن إتمام الشرائع إتمام للنعمة ، ولذلك يوجب الشكر .
والقيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المشاق ، فأمر فيها بالصبر ، وأنه أنعم عليه أولاً فشكر ، وابتلي ثانياً فصبر ، لينال درجتي الشكر والصبر ، فيكمل إيمانه .
كما روي عنه عليه السلام : « الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر » .
بشيء : متعلق بقوله : { ولنبلونكم } ، والباء فيه للإلصاق ، وأفرده ليدل على التقليل ، إذ لو جمعه فقال : بأشياء ، لاحتمل أن تكون ضروباً من كل واحد مما بعده .
وقد قرأ الضحاك : بأشياء ، فلا يكون حذف فيما بعدها ، فيكون من في موضع الصفة ، بخلاف قراءة الجمهور : بشيء ، فلا بد من تقدير حذف أي شيء من الخوف ، وشيء من الجوع ، وشيء من نقص .
والمعنى في هذه القراءة : ولنبلونكم بطرف من كذا وكذا .
والخوف : خوف العدو ، قاله ابن عباس ، وقد حصل الخوف الشديد في وقعة الأحزاب .
وقال الشافعي : هو خوف الله تعالى .
والجوع : القحط ، قاله ابن عباس ، عبر بالمسبب عن السبب .
وقيل : الجوع : الفقر ، عبر بالمسبب عن السبب أيضاً .
وقال الشافعي : هو صيام شهر رمضان .
ونقص من الأموال : بالخسران والهلاك .
وقال الشافعي : بالأمراض ، وقيل : بالشيب .
والثمرات : يعني الجوائح في الثمرات ، وقلة النبات ، وانقطاع البركات .
وقال القفال : قد يكون نقصها بالجدوب ، وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد ، وقد يكون بالإنفاق على من يرد من الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال الشافعي : والثمرات : موت الأولاد ، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه .
وفي حديث أبي موسى ، أن الله يقول للملائكة إذا مات ولد العبد : أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ .
وقال بعض العلماء : المراد في هذه الآية : مؤن الجهاد وكلفه ، فالخوف من العدوّ ، والجوع به وبالأسفار إليه ، ونقص الأموال بالنفقات فيه ، والأنفس بالقتل ، والثمرات بإصابة العدوّ لها ، أو الغفلة عنها بسبب الجهاد .
وعطف ونقص على قوله : بشيء ، أي : ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص ، ويحسن العطف تنكيرها ، على أنه يحتمل أن يكون معطوفاً على الخوف والجوع فيكون تقديره : وشيء من نقص .
ومن الأموال : متعلق بنقص ، لأنه مصدر نقص ، وهو يتعدّى إلى واحد ، وقد حذف ، أي : ونقص شيء .
ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص .
ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف ، أي ونقص شيء من الأموال ، وتكون من إذ ذاك للتبعيض .
وقالوا : يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة ، أي ونقص الأموال والأنفس والثمرات .
وأتى بالجملة الخبرية مقسماً عليها ، تأكيداً لوقوع الابتلاء ، وإسناد الفعل إليه صريح في إضافة أسباب البلايا إليه .
وأن هذه المحن من الله تعالى ، ووعده بها المؤمنين يدل على أنها ليست عقوبات ، بل إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين .
وجاء هذا الترتيب في العطف على سبيل الترقي : فأخبر أولاً بالابتلاء بشيء من الخوف ، وهو توقع ما يرد من المكروه .
ثم انتقل منه إلى الابتلاء بشيء من الجوع ، وهو أشد من الخوف بأي تفسير فسر به من القحط ، أو الفقر ، أو الحاجة إلى الأكل ، إلا على تفسير الشافعي ، وهو صوم رمضان .
ولا ترقي بين نقص وشيء ، على ما اختاره من عطف نقص على بشيء ، بل الترقي في العطف بعدو نقص ، فبدأ أولاً بالأموال ، ثم ترقى إلى الأنفس .
وأما والثمرات ، فجاء كالتخصيص بعد التعميم ، لأنها تندرج تحت الأموال ، فلا ترقي فيها .
{ وبشر الصابرين } : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من تتأتى منه البشارة ، أي على الجهاد بالنصر ، أو على الطاعة بالجزاء ، أو على المصائب بالثواب ، أقوال : والأحسن عدم التقييد ، أي كل من صبر صبراً محموداً شرعاً ، فهو مندرج في الصابرين .
قالوا : والصبر من خواص الإنسان ، لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة ، وهو بدني .
وهو : إما فعلي ، كتعاطي الأعمال الشاقة ، وإما احتمال ، كالصبر على الضرب الشديد ، ونفسي ، وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع .
فإن كان من شهوة الفرج والبطن ، سمي عفة .
وإن كان من احتمال مكروه ، اختلفت أسامية باختلاف المكروه .
ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر ، ويضاده الجزع .
وإن كان في الغنى ، سمي ضبط النفس ، ويضاده البطر .
وإن كان في حرب ، سمي شجاعة ، ويضاده الجبن .
وإن كان في نائبة مضجرة ، سمي سعة صدر ، ويضاده الضجر .
وإن كان في إخفاء كلام ، سمي كتماناً ، ويضاده الإعلان .
وإن كان في فضول الدنيا ، سمي زهداً ، ويضاده الحرص .
وإن كان على يسير من المال ، سمي قناعة ، ويضاده الشره .
وقد جمع الله أقسام ذلك وسمى جميعها صبراً ، فقال : { والصابرين في البأساء } أي المصيبة والضرّاء ، أي الفقر وحين البأس ، أي المحاربة .
قال القفال : ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ، ولا أن لا يكره ذلك ، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع ، وإن ظهر دمع عين ، أو تغير لون ، ولو ظهر منه أول ما لا يعد معه صابراً ثم صبر ، لم يعد ذلك إلا سلواناً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.