البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (155)

الجوع : القحط ، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها : الغرث .

يقال : غرث يغرث غرثاً ، فهو غرث وغرثان ، قال :

مغرّثة زرقاً كأن عيونها *** من الذمر والإيحاء نوّار عضرس

وقد استعمل المحدثون في الغرث : الجوع اتساعاً .

{ ولنبلوكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات } : تقدم أن الابتلاء : هو الاختبار ، ليعلم ما يكون من حال المختبر ، وهذا مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى ، وإنما معناه هنا : الإجابة ، والضمير الذي للخطاب .

قيل : هو للصحابة فقط ، قاله عطاء .

خاطبهم بذلك بعد الهجرة ، وأخبرهم بذلك قبل وقوعه تطميناً لقلوبهم ، لأنه إذا تقدم العلم بالواقع ، كان قد استعد له ، بخلاف الأشياء التي تفاجىء ، فإنها أصعب على النفس ، وزيادة ثواب وأجر على ما يحصل لهم من انتظار المصيبة ، وإخباراً بمغيب يقع وفق ما أخبر ، وتمييزاً لمن أسلم مريداً وجه الله ممن نافق ، وازدياد إخلاص في حال البلاء على إخلاصه في حال العافية ، وحملاً لمن لم يسلم على النظر في دلائل الإسلام ، إذ رأى هؤلاء المبتلين صابرين على دينهم ثابتي الجأش فيه ، مع ما ابتلوا به .

وقيل : هؤلاء أهل مكة ، خاطبهم بذلك إعلاماً أنه أجاب دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم ، وليبقوا يتوقعون المصيبة ، فتضاعف عليهم المصيبات .

وقيل : هو خطاب للأمة ، ويكون آخر الزمان ، قال كعب : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة ، يكون هذا الإخبار تحذيراً وموعظة على الركون إلى الدنيا وزهرتها ، ويكون إخباراً بالمغيبات .

وقيل : الخطاب لا يراد به معين ، بل هو عام ، لا يتقيد بزمان ولا بمخاطب خاص ، فكأنه قيل : ولنصيبن بكذا ، فيكون في ذلك تحذير ، وأنه للصحابة وغيرهم .

وهذه الآية لها تعلق بقوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } الآية ، وقبلها : { واشكروا لي } ، والشكر يوجب زيادة النعم والإبتلاء بما ذكر ، ينافيه ظاهراً ، وتوجيهه : أن إتمام الشرائع إتمام للنعمة ، ولذلك يوجب الشكر .

والقيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المشاق ، فأمر فيها بالصبر ، وأنه أنعم عليه أولاً فشكر ، وابتلي ثانياً فصبر ، لينال درجتي الشكر والصبر ، فيكمل إيمانه .

كما روي عنه عليه السلام : « الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر » .

بشيء : متعلق بقوله : { ولنبلونكم } ، والباء فيه للإلصاق ، وأفرده ليدل على التقليل ، إذ لو جمعه فقال : بأشياء ، لاحتمل أن تكون ضروباً من كل واحد مما بعده .

وقد قرأ الضحاك : بأشياء ، فلا يكون حذف فيما بعدها ، فيكون من في موضع الصفة ، بخلاف قراءة الجمهور : بشيء ، فلا بد من تقدير حذف أي شيء من الخوف ، وشيء من الجوع ، وشيء من نقص .

والمعنى في هذه القراءة : ولنبلونكم بطرف من كذا وكذا .

والخوف : خوف العدو ، قاله ابن عباس ، وقد حصل الخوف الشديد في وقعة الأحزاب .

وقال الشافعي : هو خوف الله تعالى .

والجوع : القحط ، قاله ابن عباس ، عبر بالمسبب عن السبب .

وقيل : الجوع : الفقر ، عبر بالمسبب عن السبب أيضاً .

وقال الشافعي : هو صيام شهر رمضان .

ونقص من الأموال : بالخسران والهلاك .

وقال الشافعي : بالصدقات .

والأنفس : بالقتل والموت .

وقال الشافعي : بالأمراض ، وقيل : بالشيب .

والثمرات : يعني الجوائح في الثمرات ، وقلة النبات ، وانقطاع البركات .

وقال القفال : قد يكون نقصها بالجدوب ، وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد ، وقد يكون بالإنفاق على من يرد من الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقيل : بظهور العدوّ عليهم .

وقال الشافعي : والثمرات : موت الأولاد ، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه .

وفي حديث أبي موسى ، أن الله يقول للملائكة إذا مات ولد العبد : أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ .

وقال بعض العلماء : المراد في هذه الآية : مؤن الجهاد وكلفه ، فالخوف من العدوّ ، والجوع به وبالأسفار إليه ، ونقص الأموال بالنفقات فيه ، والأنفس بالقتل ، والثمرات بإصابة العدوّ لها ، أو الغفلة عنها بسبب الجهاد .

انتهى كلامه .

وعطف ونقص على قوله : بشيء ، أي : ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص ، ويحسن العطف تنكيرها ، على أنه يحتمل أن يكون معطوفاً على الخوف والجوع فيكون تقديره : وشيء من نقص .

ومن الأموال : متعلق بنقص ، لأنه مصدر نقص ، وهو يتعدّى إلى واحد ، وقد حذف ، أي : ونقص شيء .

ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص .

وتكون من لابتداء الغاية .

ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف ، أي ونقص شيء من الأموال ، وتكون من إذ ذاك للتبعيض .

وقالوا : يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة ، أي ونقص الأموال والأنفس والثمرات .

وأتى بالجملة الخبرية مقسماً عليها ، تأكيداً لوقوع الابتلاء ، وإسناد الفعل إليه صريح في إضافة أسباب البلايا إليه .

وأن هذه المحن من الله تعالى ، ووعده بها المؤمنين يدل على أنها ليست عقوبات ، بل إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين .

وجاء هذا الترتيب في العطف على سبيل الترقي : فأخبر أولاً بالابتلاء بشيء من الخوف ، وهو توقع ما يرد من المكروه .

ثم انتقل منه إلى الابتلاء بشيء من الجوع ، وهو أشد من الخوف بأي تفسير فسر به من القحط ، أو الفقر ، أو الحاجة إلى الأكل ، إلا على تفسير الشافعي ، وهو صوم رمضان .

ولا ترقي بين نقص وشيء ، على ما اختاره من عطف نقص على بشيء ، بل الترقي في العطف بعدو نقص ، فبدأ أولاً بالأموال ، ثم ترقى إلى الأنفس .

وأما والثمرات ، فجاء كالتخصيص بعد التعميم ، لأنها تندرج تحت الأموال ، فلا ترقي فيها .

{ وبشر الصابرين } : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من تتأتى منه البشارة ، أي على الجهاد بالنصر ، أو على الطاعة بالجزاء ، أو على المصائب بالثواب ، أقوال : والأحسن عدم التقييد ، أي كل من صبر صبراً محموداً شرعاً ، فهو مندرج في الصابرين .

قالوا : والصبر من خواص الإنسان ، لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة ، وهو بدني .

وهو : إما فعلي ، كتعاطي الأعمال الشاقة ، وإما احتمال ، كالصبر على الضرب الشديد ، ونفسي ، وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع .

فإن كان من شهوة الفرج والبطن ، سمي عفة .

وإن كان من احتمال مكروه ، اختلفت أسامية باختلاف المكروه .

ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر ، ويضاده الجزع .

وإن كان في الغنى ، سمي ضبط النفس ، ويضاده البطر .

وإن كان في حرب ، سمي شجاعة ، ويضاده الجبن .

وإن كان في نائبة مضجرة ، سمي سعة صدر ، ويضاده الضجر .

وإن كان في إخفاء كلام ، سمي كتماناً ، ويضاده الإعلان .

وإن كان في فضول الدنيا ، سمي زهداً ، ويضاده الحرص .

وإن كان على يسير من المال ، سمي قناعة ، ويضاده الشره .

وقد جمع الله أقسام ذلك وسمى جميعها صبراً ، فقال : { والصابرين في البأساء } أي المصيبة والضرّاء ، أي الفقر وحين البأس ، أي المحاربة .

قال القفال : ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ، ولا أن لا يكره ذلك ، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع ، وإن ظهر دمع عين ، أو تغير لون ، ولو ظهر منه أول ما لا يعد معه صابراً ثم صبر ، لم يعد ذلك إلا سلواناً .

/خ157