{ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } الآية .
مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أنه لما ذكر تعالى القتل في القصاص ، والدية ، أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية ، وبيان أنه مما كتبه الله على عباده حتى يتنبه كل أحد فيوصي مفاجأة الموت ، فيموت على غير وصية ، ولا ضرورة تدعو إلى أن : كتب ، أصله : العطف على .
{ كتب عليكم القصاص في القتلى } { وكتب عليكم } وأن الواو حذفت للطول ، بل هذه جملة مستأنفة ظاهرة الارتباط بما قبلها ، لأن من أشرف على أن يقتص منه فهو بعض من حضره الموت ، ومعنى حضور الموت أي : حضور مقدماته وأسبابه من العلل والأمراض والأعراض المخوفة ، والعرب تطلق على أسباب الموت موتاً على سبيل التجوز .
وقال تعالى : { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } وقال عنترة .
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا***
والخطاب في : عليكم ، للمؤمنين مقيداً بالإمكان على تقدير التجوز في حضور الموت ، ولو جرى نظم الكلام على خطاب المؤمنين لكان : إذا حضركم الموت ، لكنه روعيت دلالة العموم في : عليكم ، من حيث المعنى ، إذ المعنى : كتب على كل واحد منكم ، ثم أظهر ذلك المضمر ، إذ كان يكون إذا حضره الموت ، فقيل : إذا حضر أحدكم ، ونظير مراعاة المعنى في العموم قول الشاعر :
فأفرد الضمير في رجالك لأنه رعى معنى العموم ، إذ المعنى ولست بسائل كل جارة من جارات بيتي ، فجاء قوله : أغياب رجالك ، على مراعاة هذا المعنى .
وهذا شيء غريب مستطرف من علم العربية .
وقيل : المراد بالموت هنا حقيقته لا مقدماته ، فيكون الخطاب متوجهاً إلى الأوصياء والورثة ، ويكون على حذف مضاف ، أي : كتب عليكم ، إذا مات أحدكم ، إنفاذ الوصية والعمل بها ، فلا تكون الآية تدل على وجوب الوصية ، بل يستدل على وجوبها بدليل آخر .
{ إِن ترك خيراً } يعني : مالاً ، في قول الجميع ، وقال مجاهد : الخير في القرآن كله المال { وانه لحب الخير لشديد } { إني أحببت حب الخير } { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً } { إني أراكم بخير } وظاهر الآية يدل على مطلق الخير ، وبه قال : الزهري ، وأبو مجلز ، وغيرهما ، قالوا : تجب فيما قلّ وفيما كثر .
وقال النخعي : من ألف درهم إلى خمسمائة ؛ وقال علي : وقتادة : ألف درهم فصاعداً ، وقال الجصاص : أربعة آلاف درهم .
هذا قول من قدّر الخير بالمال .
وأما من قدّره بمطلق الكثرة ، فإن ذلك يختلف بحسب اختلاف حال الرجل ، وكثرة عياله ، وقلتهم .
وروي عن عائشة أنها قالت : ما أرى فضلاً في مال هو أربعمائة دينار لرجل أراد أن يوصي وله عيال ، وقالت في آخر : له عيال أربعة وله ثلاثة آلاف ، إنما قال الله { ان ترك خيراً } وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك .
وعن علي : أن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه ، وقال : قال تعالى : { إن ترك خيراً } والخير : هو المال ، وليس لك مال .
ولا يدل عدم تقدير المال على أن الوصية لم تجب ، إذ الظاهر التعليق بوجود مطلق الخير ، وإن كان المراد غير الظاهر ، فيمكن تعليق الإيجاب بحسب الاجتهاد في الخير ؛ وفي تسميته هنا وجعله خيراً إشارة لطيفة إلى أنه مال طيب لا خبيث ، فإن الخبيث يجب رده إلى أربابه ، ويأثم بالوصية فيه .
واختلفوا ، فقال قوم : الآية محكمة ، والوصية للوالدين والأقربين واجبة ، ويجمع للوارث بين الوصية والميراث بحكم الآيتين .
وقال قوم : إنها محكمة في التطوع ، وقال قوم : إنها محكمة وليس معنى الوصية مخالفاً للميراث ، بل المعنى : كتب عليكم ما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين في قوله : { يوصيكم الله في أولادكم }
وقال الزمخشري : أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم ولا ينقص من أنصابهم .
وقيل : هي محكمة ، ويخصص الوالدان والأقربون بأن لا يكونوا وارثين بل أرقاء أو كفاراً ، كما خصص في الموصى به بالثلث فما دونه ، قاله الحسن ، وطاووس ، والضحاك .
وقال : ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين والأقرباء الذين لا يرثون جائزة .
وقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : الآية عامة ، وتقرر الحكم بها برهة ، ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض .
وقال ابن عمر ، وابن عباس أيضاً ، وابن زيد : الآية كلها منسوخة .
وبقيت الوصية ندباً ، ونحو هذا هو قول الشعبي ، والنخعي ، ومالك .
وقال الربيع بن خيثم وغيره : لا وصية ، وقيل : كانت في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث ، وبقوله عليه السلام : « ان الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألاَ لاَ وصية لوارث » ولتلقي الأمة إياه بالقبول حتى لحق بالمتواتر .
وإن كان من الأحاد ، لأنهم لا يتلقون بالقبول إلاّ المثبت الذي صحت روايته .
وقال قوم : الوصية للقرابة أولاً ، فإن كانت لأجنبي فمعهم ، ولا يجوز لغيرهم مع تركهم .
وقال الناس ، حين مات أبو العالية : عجباً له ، أعتقته امرأة من رياح ، وأوصى بماله لبني هاشم .
وقال الشعبي : لم يكن ذلك له ولا كرامة ، وقال طاووس : إذا أوصى لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله ، وقاله جابر ، وابن زيد .
وروي مثله عن الحسن ، وبه قال إسحاق بن راهويه .
وقال الحسن ، وجابر بن زيد ، أيضاً ، وعبد الملك بن يعلى : يبقى ثلث الوصية حيث جعلها الميت .
وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد : إذا أوصى لغير قرابته وترك قرابته جاز ذلك وأمضي ، كان الموصى له غنياً ، أو فقيراً مسلماً أو كافراً .
وهو مروي عن عمر ، وابن عباس ، وعائشة رضى الله عنها .
وظاهر : كتب ، وجوب الوصية على من خلف مالاً ، وهو قول الثوري .
وقال أبو ثور : لا تجب إلاَّ على من عليه دين أو عنده مال لقوم ، فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه ، وقيل : لا تجب الوصية ، واستدل بقول النخعي : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ، وبقوله في الحديث يريد أن يوصي ، فعلق بإرادة الوصية .
ولو كانت واجبة لما علقها بإرادته .
والموصى له ، إن كان وارثاً وأجاز ذلك الورثة جاز ، وبه قال أبو حنيفة ، ومالك .
أو قاتلاً عمداً وأجاز ذلك الورثة ، جاز في قول أبي حنيفة ومحمد .
وقال أبو يوسف : لا تجوز ولو أوصى لبعض ورثته بمال ، فقال : إن أجاز ذلك الورثة وإلاَّ فهو في سبيل الله فإن أجاز ذلك الورثة وإلاَّ كان ميراثاً .
وقال أبو حنيفة ، ومعمر : يمضي في سبيل الله .
ولو أوصى الأجنبي بأكثر من الثلث ، وأجازه الورثة قبل الموت فليس لهم الرجوع فيه بعد الموت ، وهي جائزة عليهم ، قاله ابن أبي ليلى ، وعثمان البتي .
وقال أبو حنيفة ، ومحمد ، وأبو يوسف ، وزفر ، والحسن بن صالح ، وعبيد الله بن الحسن : إن أجازوا ذلك في حياته لم يجز ذلك حتى يجيزوه بعد الموت .
وروي ذلك عن عبد الله ، وشريح ، وإبراهيم .
وقال ابن القاسم عن مالك : إن استأذنهم فأذنوا فكل وارث بائن فليس له أن يرجع ، ومن كان في عياله ، أو كان من عم وابن عم ، أن يقطع نفقته عنهم إن صح ، فلهم أن يرجعوا .
وقال ابن وهب عن مالك : إن أذنوا له في الصحة فلهم أن يرجعوا ، أو في المرض فلا .
وقول الليث كقول مالك ، ولا خلاف بين الفقهاء أنهم إذا أجازوه بعد الموت فليس لهم أن يرجعوا فيه .
وروي عن طاووس وعطاء ، إن أجازوه في الحياة جاز عليهم ، ولا خلاف في صحة وصية العاقل البالغ غير المحجور عليه ؛ واختلف في الصبي ، فقال أبو حنيفة : لا تجوز وصيته .
قال المزني : وهو قياس قول الشافعي : وقال مالك وغيره : يجوز ، والقولان عن أصحاب الشافعي .
وظاهر قوله تعالى : { كتب } المنع .
لأنه ليس من أهل التكليف ، وأجمعوا على أنه للإنسان أن يغير وصيته وأن يرجع فيها .
واختلفوا في المدبر ، فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه ليس له أن يغير ما دبر ، قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : هو وصيته ، وبه قال الشعبي ، والنخعي ، وابن شبرمة ، والثوري ، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع مدبراً ، وأن عائشة باعت مدبرة ، وإذا قال لعبده : أنت حرّ بعد موتي ، فله الرجوع عند مالك في ذلك .
وإن قال : فلان مدبر بعد موتي لم يكن له الرجوع فيه ، وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضاً عند أكثر أصحاب مالك .
وأما الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، فكل هذا عندهم وصيته .
واختلفوا في الرجوع في التدبير بماذا يكون ؟ .
فقال أبو ثور : إذا قال : رجعت في مدبري بطل التدبير ، وقال الشافعي : لا يكون إلاَّ ببيع أو هبة ، وليس قوله رجعت رجوعاً .
ومن قال : عبدي حر بعد موتي ، ولم يرد الوصية ولا التدبير ، فقال ابن القاسم : هو وصية ؟ وقال أشهب : هو مدبر .
وكيفية الوصية التي كان السلف الصالح يكتبونها : هذا ما أوصي فلان بن فلان ، أنه يشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله .
{ وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } وأوصى من ترك ، من أهله بتقوى الله تبارك وتعالى حق تقاته ، وأن يصلحوا ذات بينهم ، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين ، ويوصيهم بما أوصى به { إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون } رواه الدارقطني ، عن أنس بن مالك .
وبني كتب للمفعول وحذف الفاعل للعلم به ، وللاختصار ، إذ معلوم أنه الله تعالى ، ومرفوعُ : كتب الظاهر أنه الوصية ، ولم يلحق علامة التأنيث للفعل للفصل ، لا سيما هنا ، إذ طال بالمجرور والشرطين ، ولكونه مؤنثاً غير حقيقي ، وبمعنى الإيصاء .
وجواب الشرطين محذوف لدلالة المعنى عليه ، ولا يجوز أن يكون من معنى : كتب ، لمضي كتب واستقبال الشرطين .
ولكن يكون المعنى : كتب الوصية على أحدكم إذا حضر الموت إن ترك خيراً فليوص .
ودل على هذا الجواب سياق الكلام .
والمعنى : ويكون الجواب محذوفاً جاء فعل الشرط بصيغة الماضي ، والتحقيق أن كل شرط يقتضي جواباً فيكون ذلك المقدر جواباً للشرط الأول ، ويكون جواب الشرط الثاني محذوفاً يدل عليه جواب الشرط الأول المحذوف ، فيكون المحذوف دل على محذوف ، والشرط الثاني شرط في الأول ، فلذلك يقتضي أن يكون متقدّماً في الوجود ، وإن كان متأخراً لفظاً .
واجتماع الشرطين غير مجعول الثاني جواباً للأول بالفاء من أصعب المسائل النحوية ، وقد أوضحنا الكلام على ذلك واستوفيناه فيه في ( كتاب التكميل ) من تأليفنا ، فيؤخذ منه .
وقيل : جواب الشرطين محذوف ويقدر من معنى { كتب عليكم الوصية } ويتجوز بلفظ : كتب ، عن لفظ : يتوجه إيجاب الوصية عليكم .
حتى يكون مستقبلاً فيفسر الجواب ، لأن مستقبل ، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون إذا ظرفاً محضاً لا شرطاً ، فيكون إذ ذاك العامل فيها : كتب ، على هذا التقدير ، ويكون جواب : { إن ترك خيراً } محذوفاً يدل عليه : كتب ، على هذا التقدير ، ولا يجوز عند جمهور النحاة أن يكون إذا معمولاً للوصية لأنها مصدر وموصول ، ولا يتقدّم معمول الموصول عليه ، وأجاز ذلك أبو الحسن لأنه يجوز عنده أن يتقدّم المعمول إذا كان ظرفاً على العامل فيه إذا لم يكن موصولاً محضاً ، وهو عنده المصدر ، والألف واللام في نحو : الضارب والمضروب ، وهذا الشرط موجود هنا ، وإلى هذا ذهب في قوله .
فعلق : بالرحى ، بلفظ : المتقاعس .
وقال أبو محمد بن عطية : ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون : كتب ، هو العامل في : إذا ، والمعنى : توجه إيجاب الله عليكم مقتضى كتابه إذا حضر ، فعبر عن توجيه الإيجاب : بكتب ، ليتنظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل ، والوصية مفعول لم يسم فاعله بكتب ، وجواب الشرطين : إذا وإن ، مقدر يدل عليه ما تقدّم من قوله : { كتب عليكم } كما تقول : شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا .
وفيه تناقض لأنه قال : العامل في إذا : كتب ، وإذا كان العامل فيها كتب تمحضت للظرفية ولم تكن شرطاً ، ثم قال : وجواب الشرطين : إذا وإن مقدّر يدل عليه ما تقدّم إلى آخر كلامه ، وإذا كانت إذا شرطاً فالعامل فيها إما الجواب ، وإما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها إلاَّ على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه ، ويفرع على أن الجواب هو العامل في : إذا .
ولا يجوز تأويل كلام ابن عطية على هذا المذهب لأنه قال : وجواب الشرطين : إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم ، وما كان مقدراً يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم ، وهذا الإعراب هو على ما يقتضيه الظاهر من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بكتب .
والزمخشري يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً وهذا اصطلاحه ، قال في تفسيره : والوصية فاعل كتب ، وذكر فعلها للفاصل ، ولأنها بمعنى : أن يوصي ، ولذلك ذكر الراجع في قوله ، { فمن بدّله بعدما سمعه } .
ونبهت على اصطلاحه في ذلك لئلا يتوهم أن تسمية هذا المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً سهو من الناسخ ، وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء ، على تقدير الفاء ، والخبر إمّا محذوف ، أي : فعليه الوصية .
وإمّا منطوق به ، وهو قوله : { للوالدين والأقربين } أي : فالوصية للوالدين والأقربين ، وتكون هذه الجملة الابتدائية جواباً لما تقدم ، والمفعول الذي لم يسم فاعله : بكتب ، مضمر .
قال أبو محمد بن عطية في هذا الوجه : ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد ، هو العامل في إذا ، وترتفع الوصية بالابتداء ، وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه رحمه الله :
ويكون رفعها بالابتداء بتقدير .
فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال : فالوصية للوالدين .
وفيه أن إذا معمولة للإيصاء المقدر ، ثم قال : إن الوصية فيه جواب الشرطين ، وقد تقدّم إبداء تناقض ذلك ، لأن إذا من حيث هي معمولة للإيصاء لا تكون شرطاً ، ومن حيث إن الوصية فيه جواب إذا يكون شرطاً فتناقضا ، لأن الشيء الواحد لا يكون شرطاً وغير شرط في حالة واحدة ، ولا يجوز أن يكون الإيصاء المقدر عاملاً في إذا أيضاً لأنك إما أن تقدر هذا العامل في : إذا ، لفظ الإيصاء بحذف ، أو ضمير الإيصاء : لا ، جائز أن يقدره لفظ الإيصاء بحذف ، لأن المفعول لم يسم فاعله لا يجوز حذفه ، وابن عطية قدر لفظ : الإيصاء ، ولا جائز أن يقدره ضمير الإيصاء ، لأنه لو صرح بضمير المصدر لم يجز له أن يعمل ، لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهراً ، وإذا كان لا يجوز إعمال لفظ مضمر المصدر فمنويه أحرى أن لا يعمل ، وأما قوله : وفيه جواب الشرطين ، فليس بصحيح ، فإنا قد قررنا أن كل شرط يقتضي جواباً على حذفه ، والشيء الواحد لا يكون جواباً لشرطين ، وأما قوله على نحو ما أيد سيبويه .
وهو تحريف على سيبويه ، وإنما سيبويه أيده في كتابه :
من يفعل الحسنات الله يشكرها***
وأما قوله : بتقدير فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط ، كأنه قال : فالوصية للوالدين ، فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه ، فإن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلاَّ في ضرورة الشعر ، فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه .
قال سيبويه : وسألته ، يعنى الخليل ، عن قوله : إن تأتني أنا كريم ، قال : لا يكون هذا إلاَّ أن يضطر شاعر من قِبَل : إن أنا كريم ، يكون كلاماً مبتداً ، والفاء وإذا لا يكونان إلاَّ معلقتين بما قبلها ، فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء ، وقد قاله الشاعر مضطراً ، وأنشد البيت السابق .
وذكر عن الأخفش : أن ذلك على إضمار الفاء ، وهو محجوج بنقل سيبويه أن ذلك لا يكون إلاَّ في اضطرار ، وأجاز بعضهم أن تقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجارّ والمجرور الذي هو : عليكم ، وهو قول لا بأس به على ما نقرره ، فنقول : لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت إن ترك خيراً تشوّف السامع لذكر المكتوب ما هو ، فتكون الوصية مبتدأ ، أو خبر المبتدأ على هذا التقدير ، ويكون جواباً لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيراً ؟ فقيل : الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة ، أو : المكتوب الوصية للوالدين والأقربين ، ونظيره : ضرب بسوط يوم الجمعة زيد المضروب أو المضروب زيد ، فيكون هذا جواب بالسؤال مقدر ، كأنه قال : من المضروب ؟ وهذا الوجه أحسن ، وأقل تكلفاً من الوجه الذي قبله ، وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الإيصاء ، وضمير الإيصاء ، والوالدان معروفان ، وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً }
{ والأقربين } جمع الأقرب ، وظاهره أنه أفعل تفضيل ، فكل من كان أقرب إلى الميت دخل في هذا اللفظ ، وأقرب ما إليه الوالدان ، فصار ذلك تعميماً بعد تخصيص ، فكأنهما ذكراً مرتين : توكيداً وتخصيصاً على اتصال الخير إليهما ، هذا مدلول ظاهر هذا اللفظ ، وعند المفسرين : الأقربون الأولاد ، أو من عدا الأولاد ، أو جميع القرابات ، أو من لا يرث من الأقارب .
{ بالمعروف } أي : لا يوصى بأزيد من الثلث ، ولا للغنيّ دون الفقير ، وقال ابن مسعود : الأخل فالأخل ، أي : الأحوج فالأحوج ، وقيل : الذي لا حيف فيه ، وقيل : كان هذا موكولاً إلى اجتهاد الموصي ، ثم بين ذلك وقدر : «بالثلث والثلث كثير » .
وقيل : بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ، فإنهم كانوا قد يوصون بالمال كله ، وقيل : بالمعروف من ماله غير المجهول .
وهذه الأقوال ترجع إلى قدر ما يوصي به ، وإلى تمييز من يوصى له ، وقد لخص ذلك الزمخشري وفسره بالعدل ، وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير ، ولا يتجاوز الثلث ، وتعلق بالمعروف بقوله : الوصية ، أو بمحذوف ، أي : كائنة بالمعروف ، فيكون بالمعروف حالاً من الوصية .
{ حقاً على المتقين } انتصب : حقاً ، على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، أي : حق ذلك حقاً ، قاله ابن عطية ، والزمخشري .
وهذا تأباه القواعد النحوية لأن ظاهر قوله : { على المتقين } إذن يتعلق على ب : حقاً ، أو يكون في موضع الصفة له ، وكلا التقديرين يخرجه عن التأكيد ، أما تعلقه به فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل بحرف مصدري ، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل وذلك مطرد في الأمر والاستفهام ، على خلاف في هذا الأخير على ما تقرر في علم النحو ، وأما جعله صفة : لحقاً أي : حقاً كائناً على المتقين ، فذلك يخرجه عن التأكيد ، لأنه إذا ذاك يتخصص بالصفة ، وجوز المعربون أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، إمّا لمصدر من : كتب عليكم ، أي : كتباً حقاً وإما لمصدر من الوصية أي إيصاءً حقاً ، وأبعدَ من ذهب إلى أنه منصوب : بالمتقين ، وأن التقدير : على المتقين حقاً ، كقوله : { أولئك هم المؤمنون حقاً } لأنه غير المتبادر إلى الذهن ، ولتقدمه على عامله الموصول ، والأولى عندي أن يكون مصدراً من معنى : كتب ، لأن معنى : كتبت الوصية ، أي : وجبت وحقت ، فانتصابه على أنه مصدر على غير الصدر ، كقولهم : قعدت جلوساً ، وظاهر قوله : كتب وحقاً ، الوجوب ، إذ معنى ذلك الإلزام على المتقين ، قيل : معناه : من اتقى في أمور الورثة أن لا يسرف ، وفي الأقربين أن يقدّم الأحوج فالأحوج ، وقيل : من اتبع شرائع الإيمان العاملين بالتقوى قولاً وفعلاً ، وخصهم بالذكر تشريفاً لهم وتنبيهاً على علو منزلة المتقين عنده ، وقيل : من اتقى الكفر ومخالفة الأمر .
وقال بعضهم : قوله { على المتقين } يدل على ندب الوصية لا على وجوبها ، إذ لو كانت واجبة لقال : على المسلمين ، ولا دلالة على ما قال لأنه يراد بالمتقين : المؤمنون ، وهم الذين اتقوا الكفر ، فيحتمل أن يراد ذلك هنا . .