البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (245)

القرض : القطع بالسن ومنه سمى المقراض لأنه يقطع به ، ويقال : انقرض القوم أي ماتوا ، وانقطع خبرهم ، ومنه : أقرضت فلاناً أي قطعت له ؛ قطعة من المال ، وقال الأخفش : تقول العرب : لك عندي قرض صدق وقرض سوء ، لأمر : تأتي مسرته ومساءته ؛ وقال الزجاج : القرض : البلاء الحسن والبلاء السيء ؛ وقال الليث : القرض : اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء ، يقال : أقرض فلان فلاناً ، أعطاه ما يتجازاه منه .

والاسم منه : القرض ، وهو ما أعطيته لتكافىء عليه ؛ وقال ابن كيسان : القرض : أن تعطي شيئاً ليرجع إليك مثله ، ويقال : تقارضا الثناء أثنى كل واحد منهما على صاحبه ، ويقال قارضه الودّ والثناء ؛ وحكى الكسائي : القِرض بالكسر ، والأشهر بفتح القاف .

الضعف : مثل قدرين متساويين ، ويقال مثل الشيء في المقدار ، وضعف الشيء مثله ثلاث مرات إلاَّ أنه إذا قيل ضعفان فقد يطلق على الإثنين المثلين في القدر من حيث إن كل واحد يضعف الآخر ، كما يقال : الزوجان لكل واحد منهما زوجاً للآخر ، وفرق بعضهم بين : يضاعف ويضعف ، فقال : التضعيف : لما جعل مثلين ، والمضاعفة لما زيد عليه أكثر من ذلك .

القبض : ضم الشيء والجمع عليه والبسط ضده ، ومنه قول أبي تمام :

تعوّد بسط الكف حتى لو أنه***

دعاها لقبض لم تجبه أنامله

{ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } هذا على سبيل التأسيس والتقريب للناس بما يفهمونه والله هو الغني الحميد ، شبه تعالى عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض ، كما شبه بذل النفوس والأموال في الجنة بالبيع والشراء .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله ، وكان ذلك مما يفضي إلى بذل النفوس والأموال في إعزاز دين الله ، أثنى على من بذل شيئاً من ماله في طاعة الله ، وكان هذا أقل حرجاً على المؤمنين ، إذ ليس فيه إلاَّ بذل المال دون النفس ، فأتى بهذه الجملة الإستفهامية المتضمنة معنى الطلب .

قال ابن المغربي : انقسم الخلق حين سمعوا هذه الآية إلى فرق ثلاثة .

الأولى : اليهود ، قالوا : إن رب محمد يحتاج إلينا ونحن أغنياء ، وهذه جهالة عظيمة ، ورد عليهم بقوله : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء }

والثانية : آثرت الشح والبخل ، وقدّمت الرغبة في المال .

الثالثة : بادرت إلى الامتثال ، كفعل أبي الدحداح وغيره . انتهى .

و : مَنْ ، استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، وخبره : ذا ، و : الذي ، نعت : لذا ، أو : بدل منه ، ومنع أبو البقاء أن تكون : من ، وذا ، بمنزلة اسم واحد ، كما كانت : ما ، مع : ذا ، قال : لأن : ما ، أشد إبهاماً من : مَنْ ، إذا كانت : من ، لمن يعقل .

وأصحابنا يجيزون تركيب : من ، مع : ذا ، في الاستفهام وتصيرهما كاسم واحد ، كما يجيزون ذلك في : ما ، و : ذا ، فيجيزون في : من ذا عندك ، أن يكون : من وذا ، بمنزلة اسم الاستفهام .

وانتصب لفظ الجلالة : بيقرض ، وهو على حذف مضاف أي : عباد الله المحاويج ، أسند الإستقراض إلى الله وهو المنزه عن الحاجات ، ترغيباً في الصدقة ، كما أضاف الإحسان إلى المريض والجائع والعطشان إلى نفسه تعالى في قوله ، جل وعلا : « يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني » الحديث خرجه مسلم ، والبخاري .

وانتصب : قرضاً ، على المصدر الجاري على غير الصدر ، فكأنه قيل : إقراضاً ، أو على أنه مفعول به ، فيكون بمعنى : مقروض ، أي : قطعة من المال ، كالخلق بمعنى المخلوق .

وانتصب : حسناً ، على أن يكون صفة لقوله : قرضاً ، وهو الظاهر ، أو على أن يكون نعتاً لمصدر محذوف إذا أعربنا قرضاً مفعولاً به ، أي : إقراضاً حسناً ، ووصفه بالحسن لكونه طيب النية خالصاً لله ، قاله ابن المبارك .

أو : لكونه يحتسب عند الله ثوابه ، أو : لكونه جيداً كثيراً ، أو : لكونه بلا منّ ولا أذىً ، قاله عمرو بن عثمان ، أو : لكونه لا يطلب به عوضاً ، قاله سهيل بن عبد الله القشيري التستري .

وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : فيضعفه ، بالتشديد من ضعف ، والباقون : فيضاعفه ، من ضاعف ، وقد تقدم أنهما بمعنى .

وقيل : معناهما مختلف ، وقد ذكرنا ذلك عند الكلام على المفردات .

وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، بنصب الفاء ، والباقون بالرفع على العطف على صلة الذي ، وهو قوله : يقرض ، أو على الاستئناف ، أي : فهو يضاعفه ، والأول أحسن ، لأنه لا حذف فيه ، والنصب على أن يكون جواباً للاستفهام على المعنى ، لأن الاستفهام ، وإن كان عن المقرض ، فهو عن الإقراض في المعنى فكأنه قيل : أيقرض الله أحد فيضاعفه ؟ وقال أبو علي : الرفع أحسن ، وذهب بعض النحويين إلى أنه : إذا كان الاستفهام عن المسند إليه الحكم ، لا عن الحكم ، فلا يجوز النصب بإضمار أن بعد الفاء في الجواب ، فهو محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وقد جاء في الحديث : « من يدعوني فأستجيب له ، من يستغفرني فأغفر له » وكذلك سائر أدوات الإستفهام الإسمية والحرفية .

وانتصب : أضعافاً ، على الحال من الهاء في : يضاعفه ، قيل : ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول به ، تضمن معنى فيضاعفه : فيصيره .

ويجوز أن ينتصب على المصدر باعتبار أن يطلق الضعف ، وهو المضاعف أو المضعف ، بمعنى المضاعفة أو التضعيف ، كما أطلق العطاء وهو اسم المعطى بمعنى الإعطاء ، وجمع لاختلاف جهات التضعيف باعتبار الإخلاص ، وهذه المضاعفة غير محدودة لكنها كثيرة .

قال الحسن ، والسدّي : لا يعلم كُنْهَ التضعيف إلاَّ الله تعالى : وهو قول ابن عباس ، وقد رويت مقادير من التضعيف ، وجاء في القرآن : { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } ثم قال : { والله يضاعف لمن يشاء }

قيل والآية عامّة في سائر وجوه البرّ من : صدقة ، وجهاد ، وغير ذلك ، وقيل : خاصة بالنفقة في الجهاد ، وقيل : بالصدقة وإنفاق المال على الفقراء المحتاجين .

{ والله يقبض ويبسط } أي : يسلب قوماً ويعطي قوماً ، أو : يقتر ويوسع ، قاله الحسن ، أو : يقبض الصدقات ويخلف البذل مبسوطاً ، أو : يقبض أي : يميت لأن من أماته فقد قبضه ، ويبسط أي : يحييه ، لأن من مدّ له في عمره فقد بسطه ، أو : يقبض بعض القلوب فلا تنبسط ، ويبسط بعضها فيقدّم خيراً لنفسه ، أو : يقبض بتعجيل الأجل ، ويبسط بطول الأمل ، أو : يقبض بالخطر ويبسط بالإباحة ، أو : يقبض الصدر ويوسعه ، أو يقبض يد من يشاء بالإنفاق في سبيله ، يبسط يد من يشاء بالإنفاق ؛ قاله أبو سليمان الدمشقي وغيره ، أو : يقبض الصدقة ويبسط الثواب ، قاله الزجاج .

وللمتصوّفة في : القبض والبسط ، أقاويل كثيرة غير هذه .

وقرأ حمزة بخلاف عن خلادٍ ، وحفص ، وهشام ، وقنبل ، والنقاش ، عن الأخفش هنا ، وأبو قرّة عن نافع : يبسط بالسين ، وخير الحلواني ، عن قالون ، عن نافع ، والباقون : بالصاد .

{ وإليه ترجعون } خبر معناه الوعيد أي : فيجازيكم بأعمالكم .

قيل : وتضمنت هذه الآية الكريمة من ضروب علم البيان ، وصنوف البلاغة : الاستفهام الذي أجرى مجرى التعجب في قوله : { ألم تر إلى الذين } والحذف بين : موتوا ثم أحياهم ، أي : فماتوا ثم أحياهم ، وفي قوله تعالى : فقال لهم الله ، أي : ملك الله بإذنه ، وفي لا لا يشكرونه ، وفي قوله : سميع لأقوالكم عليم باعمالكم ، وفي قوله : ترجعون ، فيجازي كلاً بما عمل .

والطباق في قوله : موتوا ثم أحياهم ، وفي : يقبض ويبسط ؛ والتكرار في : على الناس ، ولكن أكثر الناس ؛ والالتفات في : وقاتلوا في سبيل الله ؛ والتشبيه بغير أداته في : قرضاً حسناً ، شبه قبوله تعالى إنفاق العبد في سبيله ومجازاته عليه بالقرض الحقيقي ، فأطلق اسم القرض عليه ، والاختصاص بوصفه بقوله : حسناً ؛ والتجنيس المغاير في قوله : فيضاعفه له أضعافاً .

/خ247