التعفف : تفعل من العفة ، عف عن الشيء أمسك عنه ، وتنزه عن طلبه ، من عشق فعف فمات مات شهيداً .
أي : كف عن محارم الله تعالى ، وقال رؤبة بن العجاج :
السيما : العلامة ، ويمد ويقال : بالسيمياء ، كالكيمياء .
غلام رماه الله بالحسن يافعاً***
وهو من الوسم ، والسمة العلامة ، جعلت فاؤه مكان عينه ، وعينه مكان فائه ، وإذا مدّ : سيمياء ، فالهمزة فيه للإلحاق لا للتأنيث .
الإلحاف : الإلحاح واللجاج في السؤال ، ويقال : ألحف وأحفى ، واشتقاق : الإلحاف ، من اللحاف ، لأنه يشتمل على وجوه الطلب في كل حال ، وقيل : مِن : ألحف الشيء إذا غطاه وعمه بالتغطية ، ومنه اللحاف .
يصف ذكر النعام يحضن بيضاً بجناحيه ، ويجعل جناحه كاللحاف .
أي : يجعلونها كاللحاف للأرض ، أي يلبسونها إياها .
وقيل : اشتقاقه من لحف الجبل لما فيه من الخشونة ، وقيل : من قولهم : لحفني من فضل لحافه ، أي : أعطاني من فضل ما عنده .
{ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } قال ابن عباس ، ومقاتل : هم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله ، ولم يكن لهم شيء ، وكانوا نحواً من أربعمائة .
وقال مجاهد : هم فقراء المهاجرين من قريش ، ثم يتناول من كان بصفة الفقر ، وقال سعيد بن جبير : هم قوم أصابتهم جراحات مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فصاروا زمنى ، واختار هذا الكسائي ، وقال : أحصروا من المرض ، ولو أراد الحبس من العدو لقال : حصروا ، وقد تقدّم الكلام على الإحصار والحصر في قوله :
{ فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وثبت من اللغة هناك أنه يقال في كل منهما أحصر وحصر ، وحكاه ابن سيده .
وقال السدي : أحصروا من خوف الكفار ، إذ أحاطوا بهم ، وقال قتادة : حبسوا أنفسهم للغزو ، ومنعهم الفقر من الغزو ، وقال محمد بن الفضل : منعهم علو همتهم عن رفع حاجتهم إلاَّ إلى الله .
وقال الزمخشري : أحصرهم الجهاد ، لا يستطيعون لاشتغالهم به ضرباً في الأرض للكسب . انتهى .
و : للفقراء ، في موضع الخبر لمبتدأ محذوف ، وكأنه جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : لمن هذه الصدقات المحثوث على فعلها ؟ فقيل : للفقراء ، أي : هي للفقراء .
وقيل : تتعلق اللام بفعل محذوف ، تقديره : أعجبوا للفقراء ، أو اعمدوا للفقراء ، واجعلوا ما تنفقون للفقراء ، وأبعد القفال في تقدير : إن تبدوا الصدقات للفقراء ، وكذلك من علقه بقوله : { وما تنفقوا من خير } وكذلك من جعل : للفقراء ، بدلاً من قوله : فلأنفسكم ، لكثرة الفواصل المانعة من ذلك .
{ لا يستطيعون ضرباً في الأرض } أي تصرفاً فيها ، إمّا لِزِمْنِهم وإمّا لخوفهم من العدو لقلتهم ، فقلتهم تمنعهم من الاكتساب بالجهاد ، وانكار الكفار عليهم إسلامهم يمنعهم من التصرف في التجارة ، فبقوا فقراء .
وهذه الجملة المنفية في موضع الحال ، أي : أحصروا عاجزين عن التصرف .
ويجوز أن تكون مستأنفة ، لا موضع لها من الإعراب .
{ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } .
قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، بفتح السين حيث وقع ، وهو القياس ، لأن ماضيه على فَعِلَ بكسر العين .
وقرأ باقي السبعة بكسرها ، وهو مسموع في الفاظ ، منها : عمد يعمد ويعمد ، وقد ذكرها النحويون ، والفتح في السين لغة تميم ، والكسر لغة الحجاز ، والمعنى : أنهم لفرط انقباضهم ، وترك المسألة ، واعتماد التوكل على الله تعالى ، يحسبهم من جَهِلَ أحوالهم أغنياء ، و : من ، سببية ، أي الحامل على حسبانهم أغنياء هو تعففهم ، لأن عادة من كان غني مال أن يتعفف ، ولا يسأل ، ويتعلق ، بيحسبهم وجر المفعول له هناك بحرف السبب ، لانخرام شرط من شروط المفعول له من أجله وهو اتحاد الفاعل ، لأن فاعل يحسب هو : الجاهل ، وفاعل التعفف هو : الفقراء .
وهذا الشرط هو على الأصح ، ولو لم يكن هذا الشرط منخرماً لكان الجر بحرف السبب أحسن في هذا المفعول له ، لأنه معرف بالألف واللام ، وإذا كان كذلك فالأكثر في لسان العرب أن يدخل عليه حرف السبب ، وإن كان يجوز نصبه ، لكنه قليل كما أنشدوا .
أي : للجبن ، وإنما عرف المفعول له ، هنا لأنه سبق منهم التعفف مراراً ، فصار معهوداً منهم .
وقيل : من ، لابتداء الغاية ، أي من تعففهم ابتدأت محسبته ، لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غنى تعفف ، وإنما يحسبهم أغنياء مال ، فمحسبته من التعفف ناشئة ، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة من المسألة ، وهو الذي عليه جمهور المفسرين ، وكونها للسبب أظهر ، ولا يجوز أن تتعلق : من ، بأغنياء ، لأن المعنى يصير إلى ضد المقصود ، وذلك أن المعنى : حالهم يخفى على الجاهل به ، فيظن أنهم أغنياء ، وعلى تعليق : من ، بأغنياء يصير المعنى : أن الجاهل يظن أنهم أغنياء ، ولكن بالتعفف ، والغني بالتعفف فقير من المال ، وأجاز ابن عطية أن تكون : من ، لبيان الجنس ، قال : يكون التعفف داخلاً في المحسبة ، أي : أنهم لا يظهر لهم سؤال ، بل هو قليل .
وبإجمال فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة .
فمن ، لبيان الجنس على هذا التأويل . انتهى .
وليس ما قاله من أن : من ، هذه في هذا المعنى لبيان الجنس المصطلح عليه في بيان الجنس ، لأن لها إعتباراً عند من قال بهذا المعنى لمن يتقدّر بموصول ، وما دخلت عليه يحصل خبر مبتدأ محذوف ، نحو : { فاجتنبوا الرجز من الأوثان } التقدير : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان .
ولو قلت هنا : يحسبهم الجاهل أغنياء الذي هو التعفف ، لم يصح هذا التقدير ، وكأنه سمى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس ، أي : بينت بأي جنس وقع غناهم بالتعفف ، لا غنى بالمال .
فتسمى : من ، الداخلة على ما يبين جهة الغنى لبيان الجنس ، وليس المصطلح عليه كما قدمناه ، وهذا المعنى يؤول إلى أن من سببية ، لكنها تتعلق : بأغنياء ، لا : بيحسبهم ، ويحتمل أن يكون : يحسبهم ، جملة حالية ، ويحتمل أن يكون مستأنفة .
{ تعرفهم بسيماهم } الخطاب يحتمل أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : أنك تعرف أعيانهم بالسيما التي تدل عليهم ، ويحتمل أن يكون المعنى : تعرف فقرهم بالسيما التي تدل على الفقر ، من : رثاثة الأطمار ، وشحوب الألوان لأجل الفقر .
وقال مجاهد : السيما الخشوع والتواضع ، وقال السدي : الفاقة ، والجوع في وجوههم ، وقلة النعمة .
وقال ابن زيد : رثاثة أثوابهم ، وصفرة وجوههم .
وقيل : أثر السجود ، واستحسنه ابن عطية ، قال : لأنهم كانوا متفرغين للعبادة ، فكان الأغلب عليهم الصلاة .
وقال القرطبي : هذا مشترك بين الصحابة كلهم لقوله تعالى في حقهم : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } إلا إن كان يكون أثر السجود في هؤلاء أكثر ، وأما من فسر السيما بالخشوع ، فالخشوع محله القلب ، ويشترك فيه الغني والفقير ، والذي يفرق بين الغني والفقير ظاهراً إنما هو : رثاثة الحال ، وشحوب الألوان .
وللصوفية في تفسير السيما مقالات .
قال المرتعش : عزتهم على الفقر ، وقال الثوري : فرحهم بالفقر ، وقال أبو عثمان : إيثار ما عندهم مع الحاجة إليه ، وقيل : تيههم على الغني ، وقيل : طيب القلب وبشاشة الوجه .
والباء متعلقة : بتعرفهم ، وهي للسبب ، وجوزوا في هذه الجملة ما جوزوا في الجمل قبلها ، من الحالية ، ومن الاستئناف .
وفي هذه الآية طباق في موضعين : أحدهما : في قوله : أحصروا وضربا في الأرض ، والثاني : في قوله : للفقراء وأغنياء .
{ لا يسألون الناس إلحافاً } إذا نفي حكم عن محكوم عليه بقيد ، فالأكثر في لسان العرب إنصراف النفي لذلك القيد ، فيكون المعنى على هذا ثبوت سؤالهم ، ونفي الإلحاح أي : وإن وقع منهم سؤال ، فإنما يكون بتلطف وتستر لا بإلحاح ، ويجوز أن ينفي ذلك الحكم فينتفي ذلك القيد ، فيكون على هذا نفي السؤال ونفي الإلحاح ، فلا يكون النفي على هذا منصباً على القيد فقط .
قال ابن عباس : لا يسألون إلحافاً ولا غير إلحاف ، ونظير هذا : ما تأتينا فتحدثنا .
فعلى الوجه الأول : ما تأتينا محدثاً ، إنما تأتي ولا تحدث ، وعلى الوجه الثاني : ما يكون منك إتيان فلا يكون حديث ، وكذلك هذا لا يقع منهم سؤال البتة فلا يقع إلحاح .
ونبه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح لقبح هذا الوصف ، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده ووجود غيره ، لأنه كان يصير المعنى الأول وإنما يراد بنفي مثل هذا الوصف نفي المترتبات على المنفي الأول لأنه نفي الأول على سبيل العموم ، فتنفي مترتباته ، كما أنك إذا نفيت الإتيان فانتفى الحديث ، انتفت جميع مترتبات الإتيان من : المجالسة والمشاهدة والكينونة في محل واحد ، ولكنه نبه بذكر مترتب واحد لغرض مّا عن سائر المترتبات ، وتشبيه الزجاج هذا المعنى في الآية ، بقول الشاعر :
إنما هو مطلق انتفاء الشيئين ، أي لا سؤال ولا إلحاف .
وكذلك : هذا لا منار ولا هداية ، لا إنه مثله في خصوصية النفي ، إذ كان يلزم أن يكون المعنى : لا إلحاف ، فلا سؤال ، وليس تركيب الآية على هذا المعنى ، ولا يصح : لا إلحاف فلا سؤال ، لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، كما لزم من نفي المنار نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه ، وإنما يؤدي معنى النفي على طريقة النفي في البيت أن لو كان التركيب : لا يلحفون الناس سؤالاً ، لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف ، إذ نفي العام يدل على نفي الخاص ، فتلخص من هذا كله : أن نفي الشيئين تارة يدخل حرف النفي على شيء فتنتفي جميع عوارضه ، ونبه على بعضها بالذكر لغرض مّا ، وتارة يدخل حرف النفي على عارض من عوارضه ، والمقصود نفيه ، فينتفي لنفيه عوارضه .
وقال ابن عطية : تشبيهه ، يعني الزجاج ، الأية ببيت امرىء القيس غير صحيح ، ثم بين أن انتفاء صحة التشبيه من جهة أنه ليس مثله في خصوصية النفي ، لأن انتفاء المنار في البيت يدل على انتفاء الهداية ، وليس انتفاء الإلحاح يدل على انتفاء السؤال ، وأطال ابن عطية في تقرير هذا ، وقد بينا أن تشبيه الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين ، وقررنا ذلك .
وقيل : معنى إلحافاً أنه السؤال الذي يستخرج به المال لكثرة تلطفه ، أي : لا يسألون الناس بالرفق والتلطف ، وإذا لم يوجد هذا ، فلأن لا يوجد بطريق العنف أولى ، وقيل : معنى إلحافاً أنهم يلحفون على أنفسهم في ترك السؤال ، أي : لا يسألون لإلحاحهم على أنفسهم في : تركهم ، السؤال ، ومنعهم ذلك بالتكليف الشديد ، وقيل : من سأل ، فلا بد أن يلح ، فنفي الإلحاح عنهم مطلقاً موجب لنفي السؤال مطلقاً .
وقيل : هو كناية عن عدم إظهار آثار الفقر ، والمعنى : أنهم لا يضمون إلى السكوت من رثاثة الحال والإنكسار ، وما يقوم مقام السؤال الملحّ ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً ، وأن تكون مستأنفة .
ومن جوز الحال في هذه الجمل وذو الحال واحد ، إنما هو على مذهب من يجيز تعدد الحال لذي حالٍ ، وهي مسألة خلاف وتفصيل مذكور في علم النحو .
وجوزوا في إعراب : إلحافاً ، أن يكون مفعولاً من أجله ، وأن يكون مصدراً لفعل محذوف دل عليه : يسألون ، فكأنه قال : لا يلحفون .
وأن يكون مصدراً في موضع الحال تقديره : لا يسألون ملحفين .
{ وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } تقدّم : { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } وليس على سبيل التكرار ، والتأكيد بل كل منهما مقيد بغير قيد الآخر فالأول : ذكر أن الخير الذي يعلمه مع غيره إنما هو لنفسه ، وأنه عائد إليه جزاؤه ، والثاني : ذكر أن ذلك الجزاء الناشئ عن الخير يوفاه كاملاً من غير نقص ولا بخس ، والثالث : ذكر أنه تعالى عليم بما ينفقه الإنسان من الخير ، ومقداره ، وكيفية جهاته المؤثرة في ترتب الثواب ، فأتى بالوصف المطلع على ذلك وهو : العلم .