البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (272)

{ ليس عليكم هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } اختلف النقل في سبب نزول هذه الآية ، ومضمونها أن من أسلم كره أن يتصدق على قريبه المشرك ، أو على المشركين ، أو نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم من التصدق عليهم ، أو امتنع هو من ذلك ، وقد سأله يهودي ، فنزلت هذه الآية .

وظاهر الهدى أنه مقابل الضلال ، وهو مصدر مضاف للمفعول ، أي : ليس عليك أن تهديهم ، أي : خلق الهدى في قلوبهم ، وأما الهدى بمعنى الدعاء فهو عليه ، وليس بمراد هنا .

وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو نظير : { إن عليك إلا البلاغ } فالمعنى : ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعه الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام ، فتصدق عليهم لوجه الله ، هداهم ليس إليك .

وجعل الزمخشري هنا الهدى ليس مقابلاً للضلال الذي يراد به الكفر ، فقال : لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغيره ، وما عليك إلاَّ أن تبلغهم النواهي فحسب ، ويبعد ما قاله الزمخشري قوله : { ولكن الله يهدي من يشاء } فظاهره أنه يراد به هدى الإيمان .

وقال الزمخشري قوله : { ولكن الله يهدي من يشاء } تلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه ، فينتهي عما نهى عنه . انتهى .

فلم يحمل الهدى في الموضعين على الإيمان المقابل للضلال ، وإنما حمله على هدى خاص ، وهو خلاف الظاهر ، كما قلنا .

وقيل : الهداية هنا الغنى أي : ليس عليك أن تغنيهم ، وإنما عليك أن تواسيهم ، فإن الله يغني من يشاء .

وتسمية الغنى : هداية ، على طريقة العرب من نحو قولهم : رشدت واهتديت ، لمن ظفر ، وغويت لمن خاب وخسر وعلى هذا قول الشاعر :

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره***

ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً

وتفسير الهدى بالغنى أبعد من تفسير الزمخشري ، وفي قوله : هداهم ، طباق معنوي ، إذ المعنى : ليس عليك هدى الضالين ، وظاهر الخطاب في : ليس عليك ، أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم .

ومناسبة تعلق هذه الجملة بما قبلها أنه لما ذكر تعالى قوله : { يؤتي الحكمة من يشاء } الآية اقتضى انه ليس كل أحد آتاه الله الحكمة ، فانقسم الناس من مفهوم هذا إلى قسمين : من آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ، ومن لم يؤته إياها فهو يخبط عشواء في الضلال .

فنبه بهذه الآية أن هذا القسم ليس عليك هداهم ، بل الهداية وإيتاء الحكمة إنما ذلك إلى الله تعالى ، ليتسلى بذلك في كون هذا القسم لم يحصل له السعادة الأبدية ، ولينبه على أنهم وإن لم يكونوا مهتدين ، تجوز الصدقة عليهم .

وقيل : المعنى في : { ليس عليكم هداهم } هو ليس عليك أن تلجئهم إلى الهدى بواسطة أن تقف صدقتك على إيمانهم ، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به ، بل المطلوب منهم الإيمان على سبيل الطوع والاختيار .

وفي قوله : { ولكن الله يهدي من يشاء } رد على القدرية ، وتجنيس مغاير إذ : هداهم اسم ، ويهدي فعل .

{ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } أي : فهو لأنفسكم ، لا يعود نفعه ولا جدواه إلاَّ عليكم ، فلا تمنوا به ، ولا تؤذوا الفقراء ، ولا تبالوا بمن صادفتم من مسلم أو كافر ، فإن ثوابه إنما هو لكم .

وقال سفيان بن عيينة : معنى : فلأنفسكم ، فلأهل دينكم ، كقوله تعالى : { فسلموا على أنفسكم } { ولا تقتلوا أنفسكم } أي : أهل دينكم ، نبه على أن حكم الفرض من الصدقة بخلاف حكم التطوّع ، فإن الفرض لأهل دينكم دون الكفار .

وحكي عن بعض أهل العلم أنه كان يصنع كثيراً من المعروف ، ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيراً قط ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنما فعلت مع نفسي ، ويتلو هذه الآية .

وروي عن عليّ ، كرم الله وجهه ، أنه كان يقول : ما أحسنت إلى أحد قط ، ولا أسأت له ثم يتلو :

{ وان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها }

{ وما تنفقون إلاَّ ابتغاء وجه الله } أي : وما تنفقون النفقة المعتد لكم قبولها إلاَّ ما كان إنفاقه لابتغاء وجه الله ، فإذا عريت من هذا القصد فلا يعتد بها فهذا خبر شرط فيه محذوف أي : وما تنفقون النفقة المعتدة القبول ، فيكون هذا الخطاب للأمة .

وقيل : هو خير من الله أن نفقتهم أي : نفقة الصحابة ، رضي الله عنهم ، ما وقعت إلاّ على الوجه المطلوب من ابتغاء وجه الله ، فتكون هذه شهادة لهم من الله بذلك ، وتبشيراً بقبولها ، إذ قصدوا بها وجه الله تعالى ، فخرج هذا الكلام مخرج المدح والثناء ، فيكون هذا الخطاب خاصاً بالصحابة .

وقال الزمخشري : وليست نفقتكم إلاَّ لابتغاء وجه الله ، ولطلب ما عنده ، فما لكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله ؟ وهذا فيه إشارة إلى مذهب المعتزلة ، من أن الصدقة وقعت صحيحة ، ثم عرض لها الإبطال .

بخلاف قول غيرهم : إن المن والأذى قارنها .

وقيل : هو نفي معناه النهي ، أي : ولا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه الله ، ومجازه أنه : لما نهى عن أن يقع الإنفاق إلاَّ لوجه الله ، حصل الامتثال ، وإذا حصل الامتثال ، فلا يقع الإنفاق إلاَّ لإبتغاء وجه الله ، فعبر عن النهي بالنفي لهذا المعنى .

وانتصاب ابتغاء على أنه مفعول من أجله ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال تقديره : مبتغين ، وعبر بالوجه عن الرضا ، كما قال : ابتغاء مرضاة الله ، وذلك على عادة العرب ، وتنزه الله عن الوجه بمعنى : الجارحة ، وقد تقدم الكلام على نسبة الوجه إلى الله في قوله : { فثم وجه الله } مستوفى ، فأغنى عن إعادته .

{ وما تنفقوا من خير يوف اليكم } أي : يوفر عليكم جزاؤه مضاعفاً ، وفي هذا ، وفيما قبله ، قطع عذرهم في عدم الإنفاق ، إذ الذي ينفقونه هو لهم حيث يكونون محتاجين إليه ، فيوفون كاملاً موفراً ، فينبغي أن يكون إنفاقهم على أحسن الوجوه وأفضلها ، وقد جاء قوله تعالى : { ويربي الصدقات } وقوله ، صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : « إذا تصدق العبد بالصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل ، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه ، أو فصيله ، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد » والضمير في : يوفَّ ، عائد على : ما ، ومعنى توفيته : إجزال ثوابه .

{ وأنتم لا تظلمون } جملة حالية ، العامل فيها يوفَّ .

والمعنى : أنكم لا تنفقون شيئاً من ثواب إنفاقكم .