البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (60)

الاستسقاء : طلب السقي ، والطلب أحد المعاني التي سبق ذكرها في الاستفعال في قوله : { وإياك نستعين } العصا : مؤنث ، والألف منقلبة عن واو ، قالوا : عصوان ، وعصوته : أي ضربته بالعصا ، ويجمع على أفعل شذوذاً ، قالوا : أعص ، أصله أعصوو على فعول قياساً ، قالوا : عصى ، أصله عصوو ، ويتبع حركة العين حركة الصاد ، قال الشاعر :

ألا إن لا تكن إبل فمعزى *** كائن قرون جلتها العصى

الحجر : هو هذا الجسم الصلب المعروف عند الناس ، وجمع على أحجار وحجار ، وهما جمعان مقيسان فيه ، وقالوا : حجارة بالتاء ، واشتقوا منه ، قالوا : استحجر الطين ، والاشتقاق من الأعيان قليل جداً .

الانفجار : انصداع شيء من شيء ، ومنه انفجر ، والفجور : وهو الانبعاث في المعصية كالماء ، وهو مطاوع فعل فجره فانفجر ، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها انفعل ، وقد تقدّم ذكرها .

اثنتا : تأنيث اثنين ، وكلاهما له إعراب المثنى ، وليس بمثنى حقيقة لأنه لا يفرد ، فيقال : اثن ، ولا اثنة ، ولامهما محذوفة ، وهي ياء ، لأنه من ثنيت .

العشرة ، بإسكان الشين ، لغة الحجاز ، وبكسرها لغة تميم ، والفتح فيها شاذ غير معروف ، وهو أوّل العقود ، واشتقوا منه فقالوا : عشرهم يعشرهم ، ومنه العشر والعشر ، والعشر : شجر لين ، والإعشار : القطع لا واحد لها ، ووصل بها المفرد ، قالوا : برمة أعشار .

العين : لفظ مشترك بين منبع الماء والعضو الباصر ، والسحابة تقبل من ناحية القبلة ، والمطر يمطر خمساً أو ستاً ، لا يقلع ، ومن له شرف في الناس ، والثقب في المزادة والذهب وغير ذلك ، وجمع على أعين شاذ ، أو عيون قياساً ، وقالوا : في الأشراف من الناس : أعيان ، وجاء ذلك قليلاً في العضو الباصر ، قال الشاعر :

أسمل أعياناً لها ومآقيا***

أناس : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وإذا سمي به مذكر صرف ، وقول الشاعر :

وإلى ابن أمّ أناس أرحل ناقتي***

منع صرفه ، إما لأنه علم على مؤنث ، وإما ضرورة على مذهب الكوفيين .

مشرب : مفعل من الشراب يكون للمصدر والزمان والمكان ، ويطرد من كل ثلاثي متصرف مجرّد ، لم تكسر عين مضارعه سواء صحت لامه : كسرت ودخل ، أو أعلت : كرمى وغزا .

وشذ من ذلك ألفاظ ذكرها النحويون .

العثو ، والعثى : أشدّ الفساد ، يقال : عثا يعثو عثواً ، وعثى يعثى عثياً ، وعثا يعثى عثياً : لغة شاذة ، قال الشاعر :

لولا الحياء وأن رأسي قد عثا *** فيه المشيب لزرت أمّ القاسم

وثبوت العثى دليل على أن عثى ليس أصلها عثو ، كرضي الذي أصله رضو ، خلافاً لزاعمه .

وعاث يعيث عيثاً ومعاثاً ، وعث يعث كذلك ، ومنه عثة الصوف : وهي السوسة التي تلحسه .

{ وإذ استسقى موسى لقومه } : هذا هو الإنعام التاسع ، وهو جامع لنعم الدنيا والدين .

أما في الدنيا فلأنه أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء ، ولولا هو لهلكوا في التيه ، وهذا أبلغ من الماء المعتاد في الأنعام لأنهم في مفازة منقطعة .

وأما في الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه ، وعلى صدق موسى عليه السلام ، والاستسقاء طلب الماء عند عدمه وقلته .

وقيل : مفعول استسقى محذوف ، أي استسقى موسى ربه ، فيكون المستسقى منه هو المحذوف ، وقد تعدى إليه الفعل كما تعدى إليه في قوله : { إذ استسقاه قومه } أي طلبوا منه السقيا .

وقال بعض الناس : وحذف المفعول تقديره استسقى ماء ، فعلى هذا القول يكون المحذوف هو المستسقى ، ويكون الفعل قد تعدى إليه كما تعدى إليه في قوله :

«وأبيض يستسقى الغمام بوجهه »***

.

ويحتاج إثبات تعديه إلى اثنين إلى شاهد من كلام العرب ، كان يسمع من كلامهم : استسقى زيد وبه الماء ، وقد ثبت تعديه مرة إلى المستسقي منه ومرة إلى المستسقى ، فيحتاج تعديه إليهما إلى ثبت من لسان العرب .

وذكر الله هذه النعمة من الاستسقاء غير مقيدة بمكان .

وقد اختلف في ذلك ، فقال أبو مسلم : كان ذلك على عادة الناس إذا قحطوا ، وما فعله الله تعالى من تفجير الماء من الحجر فوق الإجابة بالسقياء وإنزال الغيث .

وقال أكثر المفسرين : كان هذا الاستسقاء في التيه حين قالوا : من لنا بكذا ، إلى أن قالوا : من لنا بالماء ، فأمرالله موسى بضرب الحجر .

وقيل ذلك عند خروجهم من البحر الذي انفلق ، وقعوا في أرض بيضاء ليس فيها ظل ولا ماء ، فسألوا أن يستسقى لهم ، واللام قي لقومه لام السبب ، أي لأجل قومه وثم محذوف يتم به معنى الكلام ، أي لقومه إذ عطشوا ، أو ما كان بهذا المعنى ومحذوف آخر : أي فأجبناه .

{ فقلنا اضرب بعصاك } قالوا : وهذه العصا هي المسؤول عنها في قوله : { وما تلك بيمينك يا موسى } وكانت فيها خصائص تذكر في موضعها .

قيل : كانت نبعة ، وقيل : عليقي ، وهو شجر له شوك ، وقيل : من آس الجنة طولها عشرة أذرع ، طول موسى عليه السلام ، لها شعبتان يتقدان في الظلمة ، وكان آدم حملها معه من الجنة إلى الأرض ، فتوارثها أصاغر عن أكابر حتى وصلت إلى شعيب ، فأعطاها موسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام ، وذلك أنه لما استرعاه قال له : اذهب فخذ عصاً ، فذهب إلى البيت ، فطارت هذه إلى يده ، فأمره بردها ، فأخذ غيرها ، فطارت إلى يده ، فتركها له .

وقيل : دفعها إليه ملك من الملائكة في طريق مدين .

{ الحجر } : قال الحسن : لم يكن حجراً معيناً بل أي حجر ضرب انفجر منه الماء ، وهذا أبلغ في الإعجاز ، حيث ينفجر الماء من أي حجر ضرب .

وروي أنهم قالوا : لو فقد موسى عصاه متنا عطشاً ، فأوحى الله إليه : لا تقرع الحجارة ، وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون ، فكانت تطيعه فلم يعتبروا .

وقال وهب : كان يقرع لهم أقرب حجر فينفجر ، فعلى هذا تكون الألف واللام في الحجر للجنس .

وقيل : إن الألف واللام للعهد ، وهو حجر معين حمله معه من الطور مربع له أربعة أوجه ، ينبع من كل وجه ثلاثة أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم ، وكانوا ستمائة ألف خارجاً عن دوابهم ، وسعة العسكر اثنا عشر ميلاً .

وقيل : حجر أهبطه معه آدم من الجنة ، فتوارثوه حتى وقع لشعيب ، فدفعه إلى موسى مع العصا .

وقيل : هو الحجر الذي وضع موسى عليه ثوبه حين اغتسل ، إذ رموه بالأدرة ، ففز ، قال له جبريل عليه السلام : بأمر الله أرفع هذا الحجر ، فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاة ، قاله ابن عباس .

وقيل : حجر أخذه من قعر البحر خفيف مربع مثل رأس الرجل ، له أربعة أوجه ، ينبع من كل وجه ثلاث أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إليه ، وكان يضعه في مخلاته ، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه .

وقيل : كان رخاماً فيه اثنتا عشرة حفرة ، تتبع من كل حفرة عين ماء عذب يأخذونه ، فإذا فرغوا ضربه موسى بعصاه فذهب الماء .

وقيل : حجر أخذه من جبل زبيد ، طوله أربعة أذرع ، قاله الضحاك .

وقيل : حجر مثل رأس الشاة ، يلقونه في جانب الجوالق إذا ارتحلوا ، فيه من كل ناحية ثلاث عيون بعد أن يستمسك ماؤها بعد رحلتهم ، فإذا نزلوا قرعه موسى بعصاه فعادت العيون بحسبها ، قاله ابن زيد .

وقيل حجر يحمله في مخلاته ، أخذه ، إذ قالوا : كيف بنا إذا أفضنا إلى أرض ليست فيها حجارة ؟ فحيثما نزلوا ألقاه فينفجر ماء .

وقيل : حجر من الكذان فيه اثنتا عشرة عيناً ، يسقي كل يوم ستمائة ألف ، قاله أبو روق ، وقيل : حجر ذراع في ذراع ، قاله السدّي .

وقيل : حجر مثل رأس الثور .

وقيل : حجر كان ينفجر لهم منه الماء ، لم يكونوا يحملونه ، بل كانوا أي مكان نزلوا وجدوه فيه ، وذلك أعظم في الإعجاز وأبلغ في الخارق ، وقال مقاتل والكلبي : كانوا إذا قضوا حاجتهم من الماء اندرست تلك العيون ، فإذا احتاجوا إلى الماء انفجرت .

فهذه أقوال المفسرين في الحجر ، وظاهرها أو ظاهر أكثرها التعارض .

قال بعض من جمع في تفسير القرآن : الأليق أنِهِ الحجر الذي فرّ بثوب موسى عليه السلام ، فإن الله أودع فيه حركة التنقل والسعي ، أووكل به ملكاً يحمله ولا يستنكر ذلك .

فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ » وقد رام هذا الرجل الجمع بين هذه الأقوال بأن يكون الحجر غير معين ، بل أيّ حجر وجده ضربه ، فوجد مرّة مربعاً ، ومرّة كذاناً ، ومرة رخاماً ، وكذا باقيها .

قال : فروى الراوي صفة ذلك الحجر الذي ضربه في تلك المنزلة قال : فيزول التغاير في الكيفيات ، ويحصل التوفيق بين الروايات .

وهذا الكلام كما ترى .

وظاهر القرآن : أن الحجر ليس بمعين ، إذ لم يتقدم ذكر حجر فيكون هذا معهوداً ، وأن الاستسقاء لم يتكرّر ، لا هو ولا الضرب ولا الانفجار ، وأن هذه الكيفيات التي ذكروها لم يتعرّض لها لفظ القرآن ، فيحتمل أن يكون ذلك متكرراً ، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة ، والواحدة هي المتحققة .

{ فانفجرت } : الفاء للعطف على جملة محذوفة ، التقدير : فضرب فانفجرت ، كقوله تعالى : { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } أي فضرب فانفلق .

ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار مرتباً على ضربه ، إذ لو كان يتفجر دون ضرب ، لما كان للأمر فائدة ، ولكان تركه عصياناً ، وهو لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

وما ذهب إليه بعض الناس من أن الفاء في مثل : فانفلق ، هي الفاء التي في ضرب ، وأن المحذوف هو المعطوف عليه ، وحرف العطف من المعطوف حتى يكون المحذوف قد بقي عليه دليل ، إذ قد أبقيت فاؤه وحذفت فاء فانفلق ، واتصلت بانفلق فاء فضرب تكلف وتخرص على العرب بغير دليل .

وقد ثبت في لسان العرب حذف المعطوف عليه ، وفيه الفاء حيث لا معطوف بالفاء موجود ، قال تعالى : { فأرسلون يوسف أيّها الصّدّيق } التقدير : فأرسلوه فقال : فحذف المعطوف عليه والمعطوف ، وإذا جاز حذفهما معاً ، فلأن يجوز حذف كل منهما وحده أولى .

وزعم الزمخشري أن الفاء ليست للعطف ، بل هي جواب شرط محذوف ، قال : فإن ضربت فقد انفجرت ، كما ذكرنا في قوله :

{ فتاب عليكم } وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ ، اه كلامه .

وقد تقدّم لنا الردّ على الزمخشري في هذا التقدير في قوله : { فتاب عليكم } بأن إضمار مثل هذا الشرط لا يجوز ، وبينا ذلك هناك ، وفي قوله أيضاً إضمار قد إذ يقدر ، فقد تاب عليكم ، وقد انفجرت ، ولا يكاد يحفظ من لسانهم ذلك ، إنما تكون بغير فاء ، أو إن دخلت الفاء فلا بد من إظهار قد ، وما دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضياً لفظاً ومعنى ، نحو قوله : { وإن يكذبونك فقد كذبت رسل من قبلك } وإذا كان ماضياً لفظاً ومعنى ، استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط ، فاحتيج إلى تأويل وإضمار جواب شرط .

ومعلوم أن الانفجار على ما قدّر يكون مترتباً على أن يضرب ، وإذا كان مترتباً على مستقبل ، وجب أن يكون مستقبلاً ، وإذا كان مستقبلاً امتنع أن تدخل عليه قد التي من شأنها أن لا تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكون معناه ماضياً نحو الآية ، ونحو قولهم : إن تحسن إليّ فقد أحسنت إليك ، ويحتاج إلى تأويل ، كما ذكرنا .

وليس هذا الفعل بدعاء فتدخله الفاء فقط ويكون معناه الاستقبال ، وإن كان بلفظ الماضي نحو : إن زرتني فغفر الله لك .

وأيضاً فالذي يفهم من الآية أن الانفجار قد وقع وتحقق ، ولذلك قال : { قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا } وجعله جواب شرط محذوف على ما ذهب إليه هذا الرجل يجعله غير واقع ، إذ يصير مستقبلاً لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل ، والمعلق على تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلاً عن وجوده ، فما ذهب إليه فاسد في التركيب العربي ، وفاسد من حيث المعنى ، فوجب طرحه ، وأين هذا من قوله : وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ ؟ وجاء هنا : انفجرت وفي الاعراف : { انبجست } فقيل : هما سواء ، انفجر وانبجس وانشق مترادفات .

وقيل : بينهما فرق ، وهو أن الانبجاس هو أوّل خروج الماء ، والانفجار اتساعه وكثرته .

وقيل : الانبجاس خروجه من الصلب ، والانفجار خروجه من اللين .

وقيل : الانبجاس هو الرشح ، والانفجار هو السيلان ، وظاهر القرآن استعمالهما بمعنى واحد ، لأن الآيتين قصة واحدة .

{ منه } متعلق بقوله : فانفجرت ، ومن هنا لابتداء .

الغاية والضمير عائد على الحجر المضروب ، فانفجار الماء كان من الحجر لا من المكان ، كما قال تعالى : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } ولو كان هذا التركيب في غير كلام الله تعالى لأمكن أن يعود الضمير على الضرب ، وهو المصدر المفهوم من الكلام قبله ، وأن تكون من للسبب ، أي فانفجرت بسبب الضرب ، ولكن لا يجوز أن يرتكب مثل هذا في كلام الله تعالى ، لأنه لا ينبغي أن يحمل إلا على أحسن الوجوه في التركيب وفي المعنى ، إذ هو أفصح الكلام .

وفي هذا الانفجار من الإعجاز ظهور نفس الماء من حجر لا اتصال له بالأرض ، فتكون مادّته منها ، وخروجه كثيراً من حجر صغير ، وخروجه بقدر حاجتهم ، وخروجه عند الضرب بالعصا ، وانقطاعه عند الاستغناء عنه .

{ اثنتا عشرة } : التاء في اثنتا للتأنيث ، وفي ثنتا للالحاق ، وهذه نظير ابنة وبنت .

وقرأ الجمهور : عشرة بسكون الشين .

وقرأ مجاهد ، وطلحة ، وعيسى ، ويحيى بن وثاب ، وابن أبي ليلى ، ويزيد : بكسر الشين .

وروى ذلك نعيم السعيدي عن أبي عمرو ، والمشهور عنه الإسكان ، وتقدّم أنها لغة تميم ، وكسرهم لها نادر في قياسهم لأنهم يخففون فعلاً ، يقولون في نمر : نمر .

وقرأ ابن الفضل الأنصاري ، والأعمش : بفتح الشين .

وروي عن الأعمش : الإسكان ، والكسر أيضاً .

قال الزمخشري : الفتح لغة .

وقال ابن عطية : هي لغة ضعيفة .

وقال المهدوي : فتح الشين غير معروف ، ويحتمل أن تكون لغة ، وقد نص بعض النحويين على أن فتح الشين شاذ ، وعشرة في موضع خفض بالإضافة ، وهو مبني لوقوعه موقع النون ، فهو مما أعرب فيه الصدر وبني العجز .

ألا ترى أن اثنتي معرب إعراب المثنى لثبوت ألفه رفعاً وانقلابها نصباً وجراً ، وأن عشرة مبني ؟ ولما تنزلت منزلة نون اثنتين لم يصح إضافتها ، فلا يقال : اثنتا عشرتك .

وفي محفوظي أن ابن درستويه ذهب إلى أن اثنا واثنتا وثنتا مع عشر مبني ، ولم يجعل الإنقلاب دليل الإعراب .

{ عيناً } : منصوب على التمييز ، وإفراد التمييز المنصوب في باب العدد لازم عند الجمهور ، وأجاز الفراء أن يكون جمعاً ، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطاً ، وكان بينهم تضاغن وتنافس ، فأجرى الله لكل سبط منهم عيناً يرده ، لا يشركه فيه أحد من السبط الآخر ، وذكر هذا العدد دون غيره يسمى التخصيص عند أهل علم البيان ، وهو أن يذكر نوع من أنواع كثيرة لمعنى فيه لم يشركه فيه غيره ، ومنه قوله تعالى : { وأنه هو رب الشعرى } ، وسيأتي بيان ذلك التخصيص فيها ، إن شاء الله تعالى ، في موضعها ، وقول الخنساء :

يذكرني طلوع الشمس صخراً***

وأندبه بكل مغيب شمس

اختصتهما من دون سائر الأوقات للغارة والقرى .

قال بعض أهل اللطائف : خلق الله الحجارة وأودعها صلابة يفرق بها أجزاء كثيرة مما صلب من الجوامد ، وخلق الأشجار رطبة الغصون ، ليست لها قوّة الأحجار ، فتؤثر فيها تفريقاً بأجزائها ولا تفجير العيون مائها ، بل الأحجار تؤثر فيها .

فلما أيدت بقوة النبوّة ، انفلقت بها البحار ، وتفرقت بها أجزاء الأحجار ، وسالت بها الأنهار ، { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }

{ قد علم كل أناس مشربهم } : جملة استئناف تدل على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدّاه لمشرب غيره ، وكأنه تفسير لحكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عيناً ، وتنبيه عليها .

وعلم هنا متعدّية لواحد أجريت مجرى عرف ، واستعمالها كذلك كثير في القرآن ولسان العرب .

وكل أناس مخصوص بصفة محذوفة ، أي من قومه الذين استسقى لهم .

والمشرب هنا مكان الشرب وجهته التي يجري منها الماء .

وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء ، والأول أولى ، لأن دلالته على المكان بالوضع ، ودلالته على الماء بالمجاز ، وهو تسمية الشيء باسم مكانه وإضافة المشرب إليهم ، لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم ، وأعاد الضمير في مشربهم على معنى كل لا على لفظها ، ولا يجوز أن يعود على لفظها ، فيقال : مشربه ، لأن مراعاة المعنى هنا لازمة ، لأن كل قد أضيفت إلى نكرة ، ومتى أضيفت إلى نكرة وجب مراعاة المعنى ، فتطابق ما أضيفت إليه في عود ضمير وغيره ، قال تعالى : { يوم ندعوا كلّ أناس بإمامهم } ، وقال الشاعر :

وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم***

ونحن حللنا قيده فهو سارب

وقال :

وكل أناس سوف تدخل بينهم***

دويهية تصفرّ منها الأنامل

وقال تعالى : { كل نفس ذائقة الموت } وتقول : كل رجلين يقولان ذلك ، ولا يجوز في شيء من هذا مراعاة لفظ كل ، وثم محذوف تقديره : مشربهم منها : أي من الاثنتي عشرة عيناً .

ونص على المشرب تنبيهاً على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة ، وإن كان سرد الكلام قد علم كل أناس عينهم ، لكن في ذكر المشرب ما ذكرناه من تسويغ الشرب لهم منها أنشىء لهم الأمر بالأكل من المن والسلوى ، والشرب من هذه العيون ، أو أمروا بالدوام على ذلك ، لأن الإباحة كانت معلومة من غير هذا الأمر ، والأمر بالواقع أمر بدوامه ، كقولك للقائم : قم .

{ كلوا واشربوا } : هو على إضمار قول ، أي وقلنا لهم ، وهذا الأمر أمر إباحة .

قال السلمي : مشرب كل أحد حيث أنزله رائده ، فمن رائده نفسه مشربه الدنيا ، أو قلبه فمشربه الآخرة ، أو سره فمشربه الجنة ، أو روحه فمشربه السلسبييل ، أو ربه فمشربه الحضرة على المشاهدة حيث يقول : { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } طهرهم به عن كل ما سواه ، وبدئ بالأكل لأنه المقصود أولاً ، وثنى بالشرب لأن الاحتياج إليه حاصل عن الأكل ، ولأن ذكر المن والسلوى متقدم على انفجار الماء .

{ من رزق الله } ، من : لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تكون للتعبيض .

ولما كان مأكولهم ومشروبهم حاصلين لهم من غير تعب منهم ولا تكلف ، أضيفا إلى الله تعالى ، وهذا التفات ، إذ تقدم فقلنا : اضرب ، ولو جرى على نظم واحد لقال : من رزقنا ، إلا إن جعلت الإضمار قبل كلوا مسنداً إلى موسى ، أي وقال موسى : { كلوا واشربوا } فلا يكون فيه التفات ، ومن رزق الله متعلق بقوله : واشربوا ، وهو من إعمال الثاني على طريقة اختيار أهل البصرة ، إذ لو كان من أعمال الأول لأضمر في الثاني ما يحتاجه ، فكان يكون : كلوا واشربوا منه ، من رزق الله ، ولا يجوز حذف منه إلا في ضرورة على ما نص بعضهم ، والضرورة والقليل لا يحمل كلام الله عليهما .

والرزق هنا هو المرزوق ، وهو الطعام من المن والسلوى ، والمشروب من ماء العيون .

وقيل : هو الماء ينبت منه الزروع والثمار ، فهو رزق يؤكل منه ويشرب ، وهذا القول يكون فيه من رزق الله ، يجمع فيه بين الحقيقة والمجاز ، لأن الشرب من الماء حقيقة ، والأكل لا يكون إلا مما نشأ من الماء ، لا أن الأكل من الماء حقيقة ، فحمل الرزق على القدر المشترك بين الطعام والماء أولى من هذا القول .

ولما كان مطعومهم ومشروبهم لا كلفة عليهم ولا تعب في تحصيله حسنت إضافته إلى الله تعالى ، وإن كانت جميع الأرزاق منسوبة إلى الله تعالى ، سواء كانت مما تسبب العبد في كسبها أم لا ، واختص بالإضافة للفظ الله ، إذ هو الاسم العلم الذي لا يشركه فيه أحد ، الجامع لسائر الأسماء { ألله الذي خلقكم ثم رزقكم } { قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله } { أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده } و { من يرزقكم من السماء والأرض } { أإله مع الله } واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال ، لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة ، واقتضى أن يكون الرّزق مباحاً ، فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحاً وحراماً ، وأنه غير جائز .

والجواب : إن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد به المن والسلوى والماء المنفجر من الحجر ، ولا يلزم من حلية معين مّا من أنواع الرّزق حلية جميع الرّزق ، وفي هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات من الطعام ، وشرب المستلذ من الشراب ، والجمع بين اللونين والمطعومين ، وكل ذلك بشرط الحل .

وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل ، وأنه كان يشرب الماء البارد العذب ، وكانت تنبذ له فيه الثمرات ، وجمع بين القثاء والرطب ، وسقى بعض نسائه الماء .

وقد نقل عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتركون اللذيذ من الطعام والشهي من الشراب رغبة فيما عند الله تعالى .

{ ولا تعثوا في الأرض مفسدين } : لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله ، ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار من مأكول أو مشروب ، كان ذلك إنعاماً وإحساناً جزيلاً إليهم ، واستدعى ذلك التبسط في المآكل والمشارب ، وأنه ينشأ عن ذلك القوة الغضبية ، والقوّة الاستعلائية .

نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك ، وهو الفساد ، حتى لا يقابلوا تلك النعم بما يكفرها ، وهو الفساد في الأرض .

قال ابن عباس وأبو العالية : معناه ولا تسعوا .

وقال قتادة : ولا تسيروا .

وقيل : لا تتظالموا الشرب فيما بينكم ، لأن كلّ سبط منكم قد جعل له شرب معلوم .

وقيل : معناه : لا تؤخروا الغذاء ، فكانوا إذا أخروه فسد .

وقيل : معناه لا تخالطوا المفسدين .

وقيل : معناه لا تتمادوا في فسادكم .

وقيل : لا تطغوا ، قاله ابن زيد .

وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض .

{ في الأرض } : الجمهور على أنها أرض التيه ، ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدر أن يوصلوا إليها فينالها فسادهم ، ويجوز أن يريد الأرضين كلها .

وأل : لاستغراق الجنس .

ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات ، وذلك انتقام يعم الأرض بالفساد .

مفسدين : حال مؤكدة .

قال القشيري ، في قوله تعالى : { وإذ استسقى } الآية أن الذي قدر على إخراج الماء من الصخرة الصمّاء كان قادراً على إروائهم بغير ماء ، ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه ، واتصال محل الاستعانة إليه ، وليكون لموسى عليه السلام في فضل الحجر مع نفسه شغل ، ولتكليفه أن يضرب بالعصا ، نوع من المعالجة ، ثم أراد أن يكون كل سبط جارياً على سننه ، غير مزاحم لصاحبه ، وحين كفاهم ما طلبوه أمرهم بالشكروحفظ الأمر وترك احتقاب الوزر ، فقال : { ولا تعثوا } .

والمناهل مختلفة ، وكل يرد مشربه : فمشرب فرات ، ومشرب أجاج ، ومشرب صاف ، ومشرب رنق ، وسياق كل قوم يقودهم ، فالنفوس ترد مناهل المنى ، والقلوب ترد مشارب التقى ، والأرواح ترد مناهل الكشف ، والمشاهدات والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف من حقيقة الوحدة والذات .

انتهى كلامه ملخصاً .