البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} (40)

اللجي : الكثير الماء ، ولجة البحر معظمة ، وكان لجياً مسنوب إلى اللجة .

{ أو كظلمات } هذا التشبيه الثاني لأعمالهم فالأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة ، وهذا الثاني فيما هم عليه في حال الدنيا .

وبدأ بالتشبيه الأول لأنه آكد في الإخبار لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم والعذاب السرمدي .

ثم أتبعه بهذا التمثيل الذي نبههم على ما هي أعمالهم عليه لعلهم يرجعون إلى الإيمان ويفكرون في نور الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والظاهر أنه تشبيه لأعمالهم وضلالهم بالظلمات المتكاثفة .

وقال أبو علي الفارسي : التقدير أو كذي ظلمات ، قال : ودل على هذا المضاف قوله { إذا أخرج يده } فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف ، فالتشبيه وقع عند أبي عليّ للكافر لا للأعمال وهو خلاف الظاهر ، ويتخيل في تقرير كلامه أن يكون التقدير أو هم كذي ظلمات فيكون التشبيه الأول لأعمالهم .

والثاني لهم في حال ضلالهم .

وقال أبو البقاء : في التقدير وجهان أحدهما : أو كأعمال ذي ظلمات ، فيقدر ذي ظلمات ليعود الضمير من قوله { إذا أخرج يده } إليه ، ويقدر أعمال ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمات .

والثاني : لا حذف فيه ، والمعنى أنه شبه أعمال الكفار بالظلمة في حيلولتها بين القلب وبين ما يهتدى إليه ، فأما الضمير في قوله { إذا أخرج يده } فيعود إلى مذكور حذف اعتماداً على المعنى تقديره إذا أخرج من فيها يده .

وقال الجرجاني : الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار .

والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضاً من أعمالهم ، وقد قال تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور .

من الكفر إلى الإيمان ، فيكون التمثيل قد وقع لأعمالهم بكفر الكافر و { أعمالهم } منها كفرهم ، فيكون قد شبه { أعمالهم } بالظلمات ، والعطف بأو هنا لأنه قصد التنويع والتفصيل لا أن { أَو } للشك .

وقال الكرماني : { أَو } للتخيير على تقدير شبه أعمال الكفار بأيهما شئت .

وقرأ سفيان بن حسين { أو كظلمات } بفتح الواو جعلها واو عطف تقدّمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام .

والظاهر أن الضمير في { يغشاه } عائد على { بحر لجي } أي يغشى ذلك البحر أي يغطي بعضه بعضاً ، بمعنى أن تجيء موجة تتبعها أخرى فهو متلاطم لا يسكن ، وأخوف ما يكون إذا توالت أمواجه ، وفوق هذا الموج { سحاب } وهو أعظم للخوف لإخفائه النجوم التي يهتدى بها ، وللريح والمطر الناشئين مع السحاب .

ومن قدر أو كذي ظلمات أعاد الضمير في { يغشاه } على ذي المحذوف ، أي يغشى صاحب الظلمات .

وقرأ الجمهور { سحاب } بالتنوين { ظلمات } بالرفع على تقدير خبر لمبتدأ محذوف ، أي هذه أو تلك { ظلمات } وأجاز الحوفي أن تكون مبتدأ و { بعضها فوق بعض } مبتدأ وخبره في موضع خبر { ظلمات } .

والظاهر أنه لا يجوز لعدم المسوغ فيه للابتداء بالنكرة إلاّ إن قدرت صفة محذوفة أي ظلمات كثيرة أو عظيمة { بعضها فوق بعض } .

وقرأ البزي { سحاب ظلمات } بالإضافة .

وقرأ قنبل { سحاب } بالتنوين { ظلمات } بالجر بدلاً من { ظلمات } و { بعضها فوق بعض } مبتدأ وخبر في موضع الصفة لكظلمات .

قال الحوفي : ويجوز على رفع { ظلمات } أن يكون { بعضها } بدلاً منها ، وهو لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله أعلم الأخبار بأنها ظلمات ، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة وليس على الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة .

وتقدم الكلام في كاد إذا دخل عليها حرف نفي مشبعاً في البقرة في قوله { وما كادوا يفعلون } فأغنى عن إعادته ، والمعنى هنا انتفاء مقاربة الرؤية ، ويلزم من ذلك انتفاء الرؤية ضرورة وقول من اعتقد زيادة يكد أو أنه يراها بعد عسر ليس بصحيح ، والزيادة قول ابن الأنباري وأنه لم يرها إلاّ بعد الجهد قول المبرد والفراء .

وقال ابن عطية ما معناه : إذا كان الفعل بعد كان منفياً دل على ثبوته نحو كاد زيد لا يقوم ، أو مثبتاً دل على نفيه كاد زيد يقوم ، وإذا تقدم النفي على كاد احتمل أن يكون منفياً تقول : المفلوخ لا يكاد يسكن فهذا تضمن نفي السكون .

وتقول : رجل منصرف لا يكاد يسكن فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد انتهى .

والظاهر أن هذا التشبيه الثاني هو تشبيه أعمال الكفار بهذه الظلمات المتكاثفة من غير مقابلة في المعنى بأجزائه لا جزاء المشبه .

قال الزمخشري : وشبهها يعني أعماله في ظلمتها وسوادها لكونا باطلة ، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لجج البحر والأمواج والسحاب ، ومنهم من لاحظ التقابل فقال : الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة .

والبحر اللجيّ صدر الكافر وقلبه ، والموج الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان .

وقال الفراء : هذا مثل لقلب الكافر أي إنه يعقل ولا يبصر .

وقيل : { الظلمات } أعماله والبحر هواه .

القيعان القريب الغرق فيه الكثير الخطر ، والموج ما يغشى قلبه من جهل وغفلة ، والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة ، والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء على عكس ما في مثل نور الدين انتهى .

والتفسير بمقابلة الأجزاء شبيه بتفسير الباطنية ، وعدول عن منهج كلام العرب .

ولما شبه أعمال الكفار بالظلمات المتراكمة وذكر أنه لا يكاد يرى اليد من شدة الظلمة قال { ومن لم يجعل الله له نوراً } أي من لم ينور قلبه بنور الإيمان ويهده إليه فهو في ظلمة ولا نور له ، ولا يهتدي أبداً .

وهذا النور هو في الدنيا .

وقيل : هو في الآخرة أي من لم ينوره الله بعفوه ويرحمه برحمته فلا رحمة له ، وكونه في الدنيا أليق بلفظ الآية وأيضاً فذلك متلازم لأن نور الآخرة هو لمن نور الله قلبه في الدنيا .

وقال الزمخشري : ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه فهو في ظلمة الباطل لا نور له .

وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات لأن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل الصالح أو كونهما مرتقبين ، ألا ترى إلى قوله { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } وقوله { ويضل الله الظالمين } انتهى .

وهو على طريقة الاعتزال .