البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ ٱلَّذِي يُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ} (25)

الخبء : الشيء المخبوء ، من خبأت الشيء خبأ بسترته ، وسمي المفعول بالمصدر .

وقال الزمخشري : وفي حرف عبد الله ، وهي قراءة الأعمش : هلا وهلا ، بقلب الهمزتين هاء ، وعن عبد الله : هلا يسجدون ، بمعنى : ألا تسجدون ، على الخطاب .

وفي قراءة أبي : ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون ، انتهى .

وقال بن عطية : وقرأ الأعمش : هلا يسجدون ؛ وفي حرف عبد الله : ألا هل تسجدون ، بالتاء ، وفي قراءة أبي : ألا تسجدون ، بالتاء أيضاً ؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون ، وقرأ بالتاء أو الياء ، فتخريجها واضح .

وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله : { ألا يسجدوا } في موضع نصب ، على أن يكون بدلاً من قوله : { أعمالهم } ، أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا .

وما بين المبدل منه والبدل معترض ، أو في موضع جر ، على أن يكون بدلاً من السبيل ، أي نصدهم عن أن لا يسجدوا .

وعلى هذا التخريج تكون لا زائدة ، أي فصدهم عن أن يسجدوا لله ، ويكون { فهم لا يهتدون } معترضاً بين المبدل منه والبدل ، ويكون التقدير : لأن لا يسجدوا .

وتتعلق اللام إما بزين ، وإما بقصدهم ، واللام الداخلة على أن داخلة على مفعول له ، أي علة تزيين الشيطان لهم ، أو صدهم عن السبيل ، هي انتفاء سجودهم لله ، أو لخوفه أن يسجدوا لله .

وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون لا مزيدة ، ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا . انتهى .

وأما قراءة ابن عباس ومن وافقه ، فخرجت على أن تكون ألا حرف استفتاح ، ويا حرف نداء ، والمنادى محذوف ، واسجدوا فعل أمر ، وسقطت ألف يا التي للنداء ، وألف الوصل في اسجدوا ، إذ رسم المصحف يسجدوا بغير ألفين لما سقطا لفظاً سقطا خطاً .

ومجيء مثل هذا التركيب موجود في كلام العرب .

قال الشاعر :

ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد . . .

وقال :

ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال . . .

وقال :

ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى . . .

وقال :

ألا يا اسقياني قبل حبل أبي بكر . . .

وقال :

فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة *** فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي

وقال :

ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر *** وإن كان جباناً عدا آخر الدهر

وسمع بعض العرب يقول :

ألا يا ارحمونا ألا تصدّقوا علينا . . .

ووقف الكسائي في هذه القراءة على يا ، ثم يبتدىء اسجدوا ، وهو وقف اختيار لا اختبار ، والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء ، وحذف المنادى ، لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه ، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء ، وانحذف فاعله لحذفه .

ولو حذفنا المنادى ، لكان في ذلك حذف جملة النداء ، وحذف متعلقه وهو المنادي ، فكان ذلك إخلالاً كبيراً .

وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه ، كان ذلك دليلاً على العامل فيه جملة النداء .

وليس حرف النداء حرف جواب ، كنعم ، ولا ، وبلى ، وأجل ؛ فيجوز حذف الجمل بعدهنّ لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة .

ف يا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه ، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ، ولقصد المبالغة في التوكيد ، وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله :

فأصبحن لا يسألنني عن بما به *** والمتفقي اللفظ العاملين في قوله :

ولا للما بهم أبداً دواء . . .

وجاز ذلك ، وإن عدوه ضرورة أو قليلاً ، فاجتماع غير العاملين ، وهما مختلفا اللفظ ، يكون جائزاً ، وليس يا في قوله :

يا لعنة الله والأقوام كلهم . . .

حرف نداء عندي ، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ ، وليس مما حذف منه المنادى لما ذكرناه .

وقال الزمخشري : فإن قلت : أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً ، أو في واحدة منهما : قلت : هي واجبة فيهما ، وإحدى القراءتين أمر بالسجود ، والأخرى ذمّ للتارك ؛ وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه ، انتهى .

والخبء : مصدر أطلق على المخبوء ، وهو المطر والنبات وغيرهما مما خبأه تعالى من غيوبه .

وقرأ الجمهور : الخبء ، بسكون الباء والهمزة .

وقرأ أبيّ ، وعيسى : بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة .

وقرأ عكرمة : بألف بدل الهمزة ، فلزم فتح ما قبلها ، وهي قراءة عبد الله ، ومالك بن دينار .

ويخرج على لغة من يقول في الوقف : هذا الخبو ، ومررت بالخبي ، ورأيت الخبا ، وأجرى الوصل مجرى الوقف .

وأجاز الكوفيون أن تقول في المرأة والكمأة : المرأة والكمأة ، فيبدل من الهمزة ألفاً ، فتفتح ما قبلها ، فعلى قولهم هذا يجوز أن يكون الخبأ منه .

قيل : وهي لغة ضعيفة ، وإجراء الوصل مجرى الوقف أيضاً نادر قليل ، فيعادل التخريجان .

ونقل الحركة إلى الباء ، وحذف الهمزة ، حكاه سيبويه ، عن قوم من بني تميم وبني أسد .

وقراءة الخبا بالألف ، طعن فيها أبو حاتم وقال : لا يجوز في العربية ، قال : لأنه إن حذف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال : الخب ، وإن حولها قال : الخبي ، بسكون الباء وياء بعدها .

قال المبرد : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ، ولم يلحق بهم ، إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه .

والظاهر أن { في السموات } متعلق بالخبء ، أي المخبوء في السموات .

وقال الفراء في ومن يتعاقبان بقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم ، يريد منكم . انتهى .

فعلى هذا يتعلق بيخرج ، أي من في السموات .

ولما كان الهدهد قد أوتي من معرفة الماء تحت الأرض ما لم يؤت غيره ، وألهمه الله تعالى ذلك ، كان وصفه ربه تعالى بهذا الوصف الذي هو قوله : { الذي يخرج الخبء } ، إذ كل مختص بوصف من علم أو صناعة ، يظهر عليه مخايل ذلك الوصف في روائه ومنطقه وشمائله ، ولذلك ورد « ما عمل عبد عملاً إلا ألقى الله عليه رداء عمله » وقرأ الحرميان والجمهور : ما يخفون وما يعلنون ، بياء الغيبة ، والضمير عائد على المرأة وقومها .

وقرأ الكسائي وحفص : بتاء الخطاب ، فاحتمل أن يكون خطاباً لسليمان عليه السلام والحاضرين معه ، إذ يبعد أن تكون محاورة الهدهد لسليمان ، وهما ليس معهما أحد .

وكما جاز له أن يخاطبه بقوله : { أحطت بما لم تحط به } ، جاز أن يخاطبه والحاضرين معه بقوله : { ما تخفون وما تعلنون } ، بل خطابه بهذا ليس فيه ظهور شغوف بخلاف ذلك الخطاب .

والظاهر أن قوله : { ألا يسجدوا } إلى العظيم من كلام الهدهد .

وقيل : من كلام الله تعالى لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن عطية : القراءة بياء الغيبة تعطي أن الأية من كلام الهدهد ، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .