البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (11)

{ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } لما أبهم في قوله : { نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } في المقدار والأقربين ، بيّن في هذه الآية المقادير ومن يرث من الأقربين ، وبدأ بالأولاد وإرثهم من والديهم ، كما بدأ في قوله : للرّجال نصيب مما ترك الوالدان بهم .

وفي قوله : يوصيكم الله في أولادكم إجمال أيضاً بينه بعد .

وبدأ بقوله : للذكر ، وتبين ما له دلالة على فضله .

وكان تقديم الذكر أدل على فضله من ذكر بيان نقص الأنثى عنه ، ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث ، فكفاهم إن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن إذ هن يدلين بما يدلون به من الولدية .

وقد اختلف القول في سبب النزول ، ومضمن أكثر تلك الأقاويل : أنهم كانوا لا يورّثون البنات كما تقدم ، فنزلت تبييناً لذلك ولغيره .

وقيل : نزلت في جابر إذ مرض ، فعاده الرسول فقال : كيف أصنع في مالي ؟ وقيل : كان الإرث للولد والوصية للوالدين ، فنسخ بهذه الآيات .

قيل : معنى يوصيكم يأمركم .

كقوله : { ذلكم وصاكم به } وعدل إلى لفظ الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام ، وطلب حصوله سرعة ، وقيل : يعهد إليكم كقوله : { ما وصى به نوحاً } وقيل : يبين لكم في أولادكم مقادير ما أثبت لهم من الحق مطلقاً بقوله { للرّجال وأولوا الأرحام } وقيل : يفرض لكم .

وهذه أقوال متقاربة .

والخطاب في : يوصيكم ، للمؤمنين ، وفي أولادكم : هو على حذف مضاف .

أي : في أولاد موتاكم ، لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده ويفرض عليه ذلك ، وإن كان المعنى بيوصيكم يبين جاز أن يخاطب الحي ، ولا يحتاج إلى حذف مضاف .

والأولاد يشمل الذكور والإناث ، إلا أنه خص من هذا العموم من قام به مانع الإرث ، فأما الرّق فمانع بالإجماع ، وأما الكفر فكذلك ، إلا ما ذهب إليه معاذ من : أن المسلم يرث الكافر .

وأما القتل فإن قتل أباه لم يرث ، وكذا إذا قتل جده وأخاه أو عمه ، لا يرث من الدية ، هذا مذهب ابن المسيب ، وعطاء ، ومجاهد ، والزهري ، والأوزاعي ، ومالك ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وابن المنذر .

وقال أبو حنيفة وسفيان وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد : لا يرث من المال ، ولا من الدية شيئاً .

واستثنى النخعي من عموم أولادكم الأسير ، فقال : لا يرث .

وقال الجمهور : إذا علمت حياته يرث ، فإن جهلت فحكمه حكم المفقود .

واستثنى من العموم الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما الجنين فإن خرج ميتاً لم يرث ، وإن خرج حياً فقال القاسم ، وابن سيرين ، وقتادة ، والشعبي ، والزهري ، ومالك ، والشافعي : يستهل صارخاً ، ولو عطس أو تحرك أو صاح أو رضع أو كان فيه نفس .

وقال الأوزاعي وسفيان والشافعي : إذا عرفت حياته بشيء من هذه ، وإن لم يستهل فحكمه حكم الحي في الإرث .

وأما الجنين في بطن أمه فلا خلاف في أنه يرث ، وإنما الخلاف في قسمة المال الذي له فيه سهم .

وذلك مذكور في كتب الفقه .

وأما الخنثى فداخل في عموم أولادكم ، ولا خلاف في توريثه ، والخلاف فيما يرث وفيما يعرف به أنه خنثى ، وذلك مذكور في كتب الفقه .

وأما المفقود فقال أبو حنيفة : لا يرث في حال فقده من أحد شيئاً .

وقال الشافعي : يوقف نصيبه حتى يتحقق موته ، وهو ظاهر قول مالك : وأما المجنون والمعتوه والسفيه فيرثون إجماعاً ، والولد حقيقة في ولد الصلب ويستعمل في ولد الابن ، والظاهر أنه مجاز .

إذ لو كان حقيقة بطريق الاشتراك أو التواطىء لشارك ولد الصلب مطلقاً ، والحكم أنه لا يرث إلا عند عدم ولد الصلب ، أو عند وجود من لا يأخذ جميع الميراث منهم .

وهذا البحث جار في الأب والجد والأم والجدة ، والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة لاتفاق الصحابة على أنَّ الجد ليس له حكم مذكور في القرآن ، ولو كان اسم الأب يتناوله حقيقة لما صح هذا الاتفاق .

ولو أوصى لولد فلان فعند الشافعي لا يدخل ولد الولد ، وعند مالك يدخل ، وعند أبي حنيفة يدخل إن لم يكن لفلان ولد صلب .

وللذكر : إما أن يقدّر محذوف أي : للذكر منهم ، أو تنوب الألف واللام عن الضمير على رأي من يرى ذلك التقدير لذكرهم .

ومثل : صفة لمبتدأ محذوف تقديره حظ مثل .

قال الفراء : ولم يعمل يوصيكم في مثل إجراء له مجرى القبول في حكاية الجمل ، فالجملة في موضع نصب بيوصيكم .

وقال الكسائي : ارتفع مثل على حذف أن تقديره : أنّ للذكر .

وبه قرأ ابن أبي عبلة وأريد بقوله : للذكر مثل حظ الأنثيين حالة اجتماع الذكر والأنثيين فله سهمان ، كما أن لهما سهمين .

وأما إذا انفرد الابن فيأخذ المال أو البنتان ، فسيأتي حكم ذلك .

ولم تتعر الآية للنص على هاتين المسألتين .

وقال أبو مسلم الأصبهاني : نصيب الذكر هنا هو الثلثان ، فوجب أن يكون نصيب الانثيين .

وقال أبو بكر الرازي : إذا كان نصيبها مع الذكر الثلث ، فلا أن يكون نصيبها مع أنثى الثلث أولى ، لأن الذكر أقوى من الأنثى .

وقيل : حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى ، وإلا لزم حظ الذكر مثل حظ الأنثى ، وهو خلاف النص ، فوجب أن يكون حظهما الثلثين ، لأنه لا قائل بالفرق .

فهذه وجوه ثلاثة مستنبطة من الآية تدل على أن فرض البنتين الثلثان .

ووجه رابع من القياس الجلي وهو أنه لم يذكر هنا حكم الثنتين ، وذكر حكم الواحدة وما فوق الثنتين .

وفي آخر السورة ذكر حكم الأخت الواحدة ، وحكم الأختين ، ولم يذكر حكم الأخوات ، فصارت الآيتان مجملتين من وجه ، مبينتين من وجه .

فنقول : لما كان نصيب الأختين الثلثين ، كانت البنتان أولى بذلك لأنهما أقرب إلى الميت .

ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزاد على الثلثين ، وجب أن لا يزاد نصيب الأخوات على ذلك ، لأن البنت لما كانت أشدّ اتصالاً بالميت امتنع جعل الأضعف زائداً على الأقوى .

وقال الماتريدي : في الآية دليل على أن المال كله للذكر إذا لم يكن معه أنثى ، لأنه جعل للذكر مثل ما للأنثيين .

وقد جعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله : { وإن كانت واحدة فلها النصف } فدل على أن للذكر حالة الانفراد مثلي ذلك ومثلاً النصف ، هو الكل انتهى .

وقرأ الحسن وابن أبي عبلة : يوصيكم بالتشديد .

وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة والأعرج : ثلثاً والثلث والربع والسدس والثمن بإسكان الوسط ، والجمهور بالضم ، وهي لغة الحجاز وبني أسد ، قاله : النحاس من الثلث إلى العشر .

وقال الزجاج هي لغة واحدة ، والسكون تخفيف ، وتقدير الآية : يوصيكم الله في شأن أولادكم الوارثين للذكر منهم حظ مثل حظ الأنثيين حالة اجتماعهم مما ترك الموروثون أن انفرد بالإرث ، فإن كان معهما ذو فرض كان ما يبقى من المال لهما ، والفروض هي المذكورة في القرآن وهي ستة : النصف ، والربع ، والثمن ، والثلثان ، والثلث ، والسدس .

{ فإن كنَّ نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } ظاهر هذا التقسيم أنّ ما زاد على الثنتين من الأولاد يرثن الثلثين مما ترك موروثهما ، وظاهر السياق انحصار الوارث فيهن .

ولما كان لفظ الأولاد يشمل الذكور والإناث ، وقصد هنا بيان حكم الإناث ، أخلص الضمير للتأنيث .

إذ الإناث أحد قسمي ما ينطلق عليه الأولاد ، فعاد الضمير على أحد القسمين ، وكأن قوله تعالى : { في أولادكم } في قوة قوله : { في أولادكم } الذكور والإناث .

وإذا كان الضمير قد عاد على جمع التكسير العاقل المذكر بالنون في نحو قوله : ورب الشياطين ومن أضللن كما يعود على الإناث كقوله : { والوالدات يرضعن } فلأن يعود على جمع التكسير العاقل الجامع للمذكر والمؤنث ، باعتبار أحد القسمين الذي هو المؤنث أولى ، واسم كان الضمير العائد على أحد قسمي الأولاد ، والخبر نساء بصفته الذي هو فوق اثنتين ، لأنه لا تستقل فائدة الأخبار بقوله : نساء وحده ، وهي صفة للتأكيد ترفع أن يراد بالجمع قبلهما طريق المجاز ، إذ قد يطلق الجمع ويراد به التثنية .

وأجاز الزمخشري أن يكون نساء خبراً ثانياً ، لكان ، وليس بشيء ، لأن الخبر لا بد أن تستقل به فائدة الإسناد .

ولو سكت على قوله فإن كن نساء لكان نظير ، أن كان الزيدون رجالاً ، وهذا ليس بكلام .

وقال بعض البصريين : التقدير وإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين .

وقدره الزمخشري : البنات أو المولودات .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هل يصح أن يكون الضميران في كن وكانت مبهمين ، ويكون نساء وواحدة تفسيراً لهما على أن كان تامّة ؟ ( قلت ) : لا أبعد ذلك انتهى .

ونعني بالإبهام أنهما لا يعودان على مفسر متقدّم ، بل يكون مفسرهما هو المنصوب بعدهما ، وهذا الذي لم يبعده الزمخمشري هو بعيد ، أو ممنوع ألبتة .

لأن كان ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمراً يفسره ما بعده ، بل هو مختص من الأفعال بنعم وبئس وما حمل عليهما ، وفي باب التنازع على ما قرر في النحو .

ومعنى فوق اثنتين : أكثر من اثنتين بالغات ما بلغن من العدد ، فليس لهن إلا الثلثان .

ومن زعم أن معنى قوله : نساء فوق اثنتين ، اثنتان فما فوقهما ، وأنّ قوة الكلام تقتضي ذلك كابن عطية ، أو أنّ فوق زائدة مستدلاً بأن فوق قد زيدت في قوله : { فاضربوا فوق الأعناق } فلا يحتاج في ردّ ما زعم إلى حجة لوضوح فساده .

وذكروا أنّ حكم الثنتين في الميراث الثلثان كالبنات .

قالوا : ولم يخالف في ذلك إلا ابن عباس ، فإنه يرى لهما النصف إذا انفردا كحالهما إذا اجتمعا مع الذكر ، وما احتجوا به تقدّم ذكره .

وورد في الحديث في قصة أوس بن ثابت : « أنه صلى الله عليه وسلم أعطى البنتين الثلثين » وبنات الابن أو الأخوات الأشقاء أو لأب كبنات الصلب في الثلثين إذا انفردن عن من يحجبهن .

{ وإن كانت واحدة فلها النصف } قرأ الجمهور واحدة بالنصب على أنه خبر كان ، أي : وإن كانت هي أي البنت فذة ليس معها أخرى .

وقرأ نافع واحدة بالرفع على إن كان تامة وواحدة الفاعل .

وقرأ السلمي : النصف بضم النون ، وهي قراءة عليّ وزيد في جميع القرآن .

وتقدّم الخلاف في ضم النون وكسرها في { فنصف ما فرضتم } في البقرة .

وبنت الابن إذا لم تكن بنت صلب ، والأخت الشقيقة أو لأب ، والزوج إذا لم يكن للزوجة ولد ، ولا ولد ابن كبنت الصلب لكل منهم النصف .

{ ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } لما ذكر الفروع ومقدار ما يرثون أخذ في ذكر الأصول ومقدار ما يرثون ، فذكر أنّ الميت يرث منه أبواه كل واحد السدس إن كان للميت ولد ، وأبواه هما : أبوه وأمه .

وغلب لفظ الأب في التثنية كما قيل : القمران ، فغلب القمر لتذكيره على الشمس ، وهي تثنية لا تقاس .

وشمل قوله : وله ولد الذكر والأنثى ، والواحد والجماعة .

وظاهر الآية أن فرض الأب السدس إذا كان للميت ولد أي ولد كان ، وباقي المال للولد ذكراً كان أو أنثى .

والحكم عند الجمهور أنه لو كان الولد أنثى أخذ السدس فرضاً ، والباقي تعصيباً .

وتعلقت الروافض بظاهر لفظ ولد فقالوا : السدس لكل واحد من أبويه ، والباقي للبنت أو الابن ، إذ الولد يقع على : الذكر ، والأنثى ، والجد ، وبنات الابن مع البنت ، والأخوات لأب مع أخت لأب وأم ، والواحدة من ولد الأم ، والجدات كالأب مع البنت في السدس .

وقال مالك : لا ترث جدة أبي الأب .

وقال ابن سيرين : لا ترث أم الأم .

والضمير في لأبويه عائد على ما عاد عليه الضمير في ترك ، وهو ضمير الميت الدال عليه معنى الكلام وسياقه .

ولكل واحد منهما بدل من أبويه ، ويفيد معنى التفصيل .

وتبيين أن السدس لكل واحد ، إذ لولا هذا البدل لكان الظاهر اشتراكهما في السدس ، وهو أبلغ وآكد من قولك : لكل واحد من أبويه السدس ، إذ تكرر ذكرهما مرتين : مرة بالإظهار ، ومرة بالضمير العائد عليهما .

قال الزمخشري : والسدس مبتدأ ، وخبره لأبويه ، والبدل متوسط بينهما انتهى .

وقال أبو البقاء : السدس رفع بالابتداء ، ولكل واحد منهما الخبر ، ولكل بدل من الأبوين ، ومنهما نعت لواحد .

وهذا البدل هو بدل بعض من كل ، ولذلك أتى بالضمير ، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة ، لجواز أبواك يصنعان كذا ، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا .

بل تقول : يصنع كذا .

وفي قول الزمخشري : والسدس مبتدأ وخبره لأبويه نظر ، لأنّ البدل هو الذي يكون الخبر له دون المبدل منه ، كما مثلناه في قولك : أبواك كل واحد منهما يصنع كذا ، إذا أعربنا كلا بدلاً .

وكما تقول : إنّ زيداً عينه حسنه ، فلذلك ينبغي أن يكون إذا وقع البدل خبراً فلا يكون المبدل منه هو الخبر ، واستغنى عن جعل المبدل منه خبراً بالبدل كما استغنى عن الاخبار عن اسم إن وهو المبدل منه بالاخبار عن البدل .

ولو كان التركيب : ولأبويه السدسان لا وهم التنصيف أو الترجيح في المقدار بين الأبوين ، فكان هذا التركيب القرآني في غاية النصية والفصاحة ، وظاهر قوله : ولأبويه ، أنهما اللذان ولدا الميت قريباً لا جداه ، ولا مَن علا من الأجداد .

وزعموا أن قوله : أولادكم ، يتناول من سفل من الأبناء .

قالوا : لأنّ الأبوين لفظ مثنى لا يحتمل العموم ولا الجمع ، بخلاف قوله : في أولادكم .

وفيما قالوه : نظروهما عندي سواء في الدلالة ، إن نظر إلى حمل اللفظ على حقيقته فلا يتناول إلا الأبناء الذين ولدهم الأبوان قريباً ، لا من سفل كالأبوين لا يتناول إلا من ولداه قريباً ، لا من علا .

أو إلى حمل اللفظ على مجازه ، فيشترك اللفظان في ذلك ، فينطلق الأبوان على من ولداه قريباً .

ومن علا كما ينطلق الأولاد على من ولداهم قريباً .

ومن سفل يبين حمله على الحقيقة في الموضعين أنَّ ابن الابن لا يرث مع الابن ، وأن الجدة لا يفرض لها الثلث بإجماع ، فلم ينزل ابن الابن منزلة الابن مع وجوده ، ولا الحدة منزلة الأم .

{ فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } قوله : فإن لم يكن له ولد قسيم لقوله : { إن كان له ولد } وورثه أبواه دليل عل أنهما انفردا بميراثه ليس معهما أحد من أهل السهام ، لا ولد ولا غيره ، فيكون قوله : وورثه أبواه حكما لهما بجميع المال .

فإذا خلص للأم الثلث كان الثاني وهو الثلثان للأب ، فذكر القسم الواحد يدل على الآخر كما تقول : هذا المال لزيد وعمرو ، لزيد منه الثلث ، فيعلم قطعاً أن باقيه وهو الثلثان لعمرو .

فلو كان معهما زوج كان للأم السدس وهو : الثلث بالإضافة إلى الأب .

وقال ابن عباس وشريح : للأم الثلث من جميع المال مع الزوج ، والنصف للزوج ، وما بقي للأب ، فيكون معنى : وورثه أبواه منفردين أو مع غير ولد ، وهذا مخالف لظاهر قوله : وورثه أبواه .

إذ يدل على أنهما انفردا بالإرث ، فيتقاسمان للذكر مثل حظ الأنثيين .

ولا شك أن الأب أقوى في الإرث من الأم ، إذ يضعف نصيبه على نصيبها إذ انفردا بالإرث ، ويرث بالفرض وبالتعصيب وبهما .

وفي قول ابن عباس وشريح : يكون لها مع الزوج والأب مثل حظ الذكرين ، فتصير أقوى من الأب ، وتصير الأنثى لها مثلاً حظ الذكر ، ولا دليل على ذلك من نص ولا قياس .

وفي إقامة الجد مقام الأب خلاف .

فمن قال : أنه أب وحجب به الإخوة جماعة منهم : أبو بكر رضي الله عنه ، ولم يخالفه أحد من الصحابة في أيام حياته .

وقال بمقالته بعد وفاته : أبي ومعاذ ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، وابن الزبير عبد الله ، وعائشة ، وعطاء ، وطاووس ، والحسن ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وإسحاق ، وأبو ثور .

وذهب علي ، وزيد ، وابن مسعود : إلى توريث الجد مع الإخوة ، ولا ينقص من الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأم أو للأب ، إلا مع ذوي الفروض ، فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئاً في قول : زيد ، وهو قول : مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، ومحمد ، وأبي يوسف .

كان عليّ يشرك بين الجد والإخوة في السدس ، ولا ينقصه من السدس شيئاً مع ذوي الفروض وغيرهم ، وهو قول ابن أبي ليلى .

وذهب الجمهور : إلى أنَّ الجد يسقط بني الإخوة من الميراث ، إلا ما روي عن الشعبي عن علي : أنه أجرى بين الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة .

وأما أم الأم فتسمى أماً مجازاً ، لكن لا يفرض لها الثلث إجماعاً ، وأجمعوا على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم ، وعلى أن الأم تحجب أمها وأم الأب ، وعلى أن الأب لا يحجب أم الأم .

واختلفوا في توريث الجدة وابنتها .

فروي عن عثمان وعلي وزيد : أنها لا ترث وابنتها حية ، وبه قال : الأوزاعي ، والثوري ، ومالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي .

وروي عن عثمان وعلي أيضاً ، وعمر وابن مسعود وأبي موسى وجابر : أنها ترث معها .

وقال به : شريك ، وعبيد الله بن الحسن ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر .

وقال : كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب ، كذلك الجدة لا يحجبها إلا الأم .

وقرأ الإخوان : فلأمه هنا موضعين ، وفي القصص { في أمها } وفي الزخرف : في { أم الكتاب } بكسر الهمزة ، لمناسبة الكسرة والياء .

وكذا قرأ من { بطون أمهاتكم }

في النحل والزمر والنجم ، أو { بيوت أمهاتكم } في النور .

وزاد حمزة : في هذه كسر الميم اتباعاً لكسرة الهمزة وهذا في الدرج .

فإذا ابتدأ بضم الهمزة ، وهي قراءة الجماعة درجاً وابتداء .

وذكر سيبويه أن كسر الهمزة من أم بعد الياء ، والكسر لغة .

وذكر الكسائي والفراء : أنها لغة هوازن وهذيل .

{ فإن كان له إخوة فلأمه السدس } ، المعنى : أنه إذا كان أب وأم وإخوة ، كان نصيب الأم السدس ، وحطها الإخوة من الثلث إلى السدس ، وصار الأب يأخذ خمسة الأسداس .

وذهب ابن عباس إلى أن الإخوة يأخذون ما حجبوا الأم عنه وهو السدس ، ولا يأخذه الأب .

وروي عنه : أن الأب يأخذه لا الإخوة ، لقول الجماعة من العلماء .

قال قتادة : وإنما أخذه الأب دونهم لأنه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم .

وظاهر لفظ إخوة اختصاصه بالجمع المذكر ، لأن إخوة جمع أخ .

وقد ذهب إلى ذلك طائفة فقالوا : الإخوة تحجب الأم عن الثلث دون الأخوات ، وعندنا يتناول الجمعين على سبيل التغليب .

فإذن يصير المراد بقوله : إخوة ، مطلق الإخوة ، أي : أشقاء ، أو لأب ، أو لأم ، ذكوراً أو إناثاً ، أو الصنفين .

وظاهر لفظ إخوة ، الجمع .

وأن الذين يحطون الأم إلى السدس ثلاثة فصاعداً ، وهو قول : ابن عباس : الأخوات عنده في حكم الواحد لا يحطان كما لا يحط ، فالجمهور على أن الأخوين حكمهما في الحط حكم الثلاث فصاعداً .

ومنشأ الخلاف : هل الجمع أقله اثنان أو ثلاثة ؟ وهي مسألة يبحث فيها في أصول الفقه ، والبحث فيها في علم النحو أليق .

وقال الزمخشري : الأخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية ، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية ، وهو موضع الدلالة على الجمع المطلق ، فدل بالأخوة عليه انتهى .

ولا نسلم له دعوى أن الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة ، بل تفيد معنى الجمعية التي بعد التثنية بغير كمية فيما بعد التثنية ، فيحتاج في إثبات دعواه إلى دليل .

وظاهر إخوة الإطلاق ، فيتناول الإخوة من الأم فيحجبون كما قلنا قبل .

وذهب الروافض : إلى أنّ الإخوة من الأم لا يحجبون الأم ، لأنهم يدلون بها ، فلا يجوز أن يحجبوها ويجعلوه لغيرها فيصيرون ضارين لها نافعين لغيرها .

واستدل بهذه الآية على أن البنت تقلب حق الأم من الثلث إلى السدس بقوله : فإن كان له إخوة ، لأنها إذا حرمت الثلث بالإخوة وانتقلت إلى السدس فلان تحرم بالبنت أولى .

{ من بعد وصية يوصى بها أو دين } المعنى : أنَّ قسمة المال بين من ذكر إنما تكون بعد خروج ما يجب إخراجه بوصية ، أو بدين .

وليس تعلق الدين والوصية بالتركة سواء ، إذ لو هلك من التركة شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعاً ، ويبقى الباقي بينهم بالشركة ، ولا يسقط من الدين شيء بهلاك شيء من التركة .

وتفصيل الميراث على ما ذكروا أنه بعد الوصية يدل على أنه لا يراد ظاهر إطلاق وصية من جواز الوصية بقليل المال وكثيره ، بل دل ذلك على جواز الوصية بنقص المال .

ويبين أيضاً ذلك قوله : { للرجال نصيب } الآية .

إذ لو جازت الوصية بجميع المال لكان هذا الجواز ناسخاً لهذه الآية ، وقد دل الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول على أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث .

وقد استحبوا النقصان عنه هذا إذا كان له وارث ، فإن لم يكن له وارث ، فقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح : لا تجوز الوصية إلا في الثلث .

وقال شريك وأبو حنيفة وأصحابه : يجوز بجميع ماله ، لأنّ الامتناع في الوصية بأكثر من الثلث معلل بوجود الورثة ، فإذا لم يوجد وأجاز لظاهر إطلاق الوصية ، لأنه إذا فقد موجب تخصيص البعض جاز حمل اللفظ على ظاهره .

وقد استدل بقوله : من بعد وصية يوصي بها أو دين ، على أنه إذا لم يكن دين لآدمي ولا وصية ، يكون جميع ماله لورثته وأنه إن كان عليه حج أو زكاة أو كفارة أو نذر لا يجب إخراجه إلا أن يوصي بذلك .

وفي هذا الاستدلال نظر .

والوصية مندوب إليها ، وقد كانت واجبة قبل نزول الفرائض فنسخت .

وادعى قوم وجوبها .

وتتعلق من بمحذوف أي : يستحقون ذلك ، كما فصل من بعد وصية ، ويوصي في موضع الصفة ، وبها متعلق بيوصي ، وهو مضارع وقع موقع الماضي .

والمعنى : من بعد وصية أوصى بها .

ومعنى : أو دين ، لزمه .

وقدم الوصية على الدين ، وإن كان أداء الدين هو المقدم على الوصية بإجماع اهتماماً بها وبعثاً على إخراجها ، إذ كانت مأخوذة من غير عوض شاقاً على الورثة إخراجها مظنة للتفريط فيها ، بخلاف الدين .

فإنّ نفس الوارث موطنة على أدائه ، ولذلك سوى بينها وبين الدين بلفظ : أو ، في الوجوب .

أو لأنّ الوصية مندوب إليها في الشرع محضوض عليها ، فصارت للمؤمن كالأمر اللازم له .

والدين لا يلزم أن يوجد ، إذ قد يكون على الميت دين وقد لا يكون ، فبدىء بما كان وقوعه كاللازم ، وأخر ما لا يلزم وجوده .

ولهذه الحكمة كان العطف بأو ، إذ لو كان الدين لا يموت أحد إلا وهو راتب لازم له ، لكان العطف بالواو ، أو لأن الوصية حظ مساكين وضعاف ، والدين حظ غريم يطلبه بقوة .

وله فيه مقال .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى أو ؟ ( قلت ) : معناها الإباحة ، وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما قدم على قسمة الميراث كقولك : جالس الحسن ، أو ابن سيرين انتهى .

ودلت الآية على أن الميراث لا يكون إلا بعد إخراج ما وجب بالوصية أو الدين ، فدل على أنّ إخراج ما وجب بها سابق على الميراث ، ولم يدل على أنهما أسبق ما يخرج من مال الميت ، إذ الأسبق هو مؤنة تجهيزه من غسله وتكفينه وحمله ووضعه في قبره ، أو ما يحتاج إليه من ذلك .

وقرأ الابنان وأبو بكر : يوصي فيهما مبنياً للمفعول ، وتابعهم حفص على الثاني فقط ، وقرأهما الباقون : مبنياً للفاعل .

{ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } قال ابن عباس والحسن : هو في الآخرة لا يدرون أي الوالدين أرفع درجة عند الله ليشفع في ولده ، وكذا الولد في والديه .

وقال مجاهد وابن سيرين والسدي : معناه في الدّنيا ، أي : إذا اضطر إلى إنفاقهم للفاقة .

ونحا إليه الزجاج ، وقد ينفقون دون اضطرار .

وقال ابن زيد : في الدنيا والآخرة ، واللفظ يقتضي ذلك .

وروى عن مجاهد : أقرب لكم نفعاً في الميراث والشفاعة .

وقال ابن بحر : أسرع موتاً فيرثه الآخر .

وقال ابن عيسى : أي فاقسموا الميراث على ما بين لكم من يعلم النفع والمصلحة ، فإنكم لا تدرون أنتم ذلك ، وقريب منه قول الزجاج .

قال : معنى الكلام أنه تعالى قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة ، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم ، فتضعون الأموال على غير حكمة ، ولهذا أتبعه بقوله : { إن الله كان عليماً } حكماً أي عليم بما يصلح لخلقه ، حكيم فيما فرض .

قال ابن عطية : وهذا تعريض للحكمة في ذلك ، وتأنيس للعرب الذين كانوا يورّثون على غير هذه الصفة .

وقيل : تضمنت هذه الجملة النهي عن تمني موت الموروث .

وقيل : المعنى في أقرب لكم نفعاً الأب بالحفظ والتربية ، أو الأولاد بالطاعة والخدمة والشفقة .

وقريب من هذا قول أبي يعلى ، قال : معناه أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع ، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعاً ، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء ، والآباء ينتفعون في كبرهم بالابناء .

وقال الزمخشري معلقاً هذه الجملة : بالوصية ، وأنها جاءت ترغيباً فيها وتأكيداً .

قال : لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون ، أمن أوصى منهم أم من لم يوص يعني : أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، فهو أقرب لكم نفعاً ، وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا ، وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهاباً إلى حقيقة الأمر ، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلاً قريباً في الصورة إلا أنه فانٍ ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى ، وثواب الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باقٍ فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى انتهى كلامه .

وهو خطابه .

والوصية في الآية لم يأتِ ذكرها لمشروعيتها وأحكامها في نفسها ، وإنما جاء ذكرها ليبين أنّ القسمة تكون بعد إخراجها وإخراج الدين ، فليست مما يحدث عنها ، وتفسر هذه الجملة بها .

ولكنه لما اختلف حكم الابن والأب في الميراث ، فكان حكم الابن إذا مات الأب عنه وعن أنثى ، أن يرث مثل حظ الأنثيين ، وكان حكم الأبوين إذا مات الابن عنهما وعن ولد أن يرث كل منهما السدس ، وكان يتبادر إلى الذهن أن يكون نصيب الوالد أوفر من نصيب الابن ، إذ ذاك لما له على الولد من الإحسان والتربية من نشئه إلى اكتسابه المال إلى موته ، مع ما أمر به الابن في حياته من بر أبيه .

أو يكون نصيبه مثل نصيب ابنه في تلك الحالة إجراء للأصل مجرى الفرع في الإرث ، بين تعالى أنّ قسمته هي القسمة التي اختارها وشرعها ، وأن الآباء والأبناء الذين شرع في ميراثهم ما شرع لا ندري نحن أيهم أقرب نفعاً ، بل علم ذلك منوط بعلم الله وحكمته .

فالذي شرعه هو الحق لا ما يخطر بعقولنا نحن ، فإذا كان علم ذلك عازباً عنا فلا نخوض فيما لا نعلمه ، إذ هي أوضاع من الشارع لا نعلم نحن عللها ولا ندركها ، بل يجب التسليم فيها لله ولرسوله .

وجميع المقدرات الشرعية في كونها لا تعقل عللها هي مثل قسمة المواريث سواء .

قالوا : وارتفع أيهم على الابتداء ، وخبره أقرب ، والجملة في موضع نصب لتدرون ، وتدرون من أفعال القلوب .

وأيهم استفهام تعلق عن العمل في لفظه ، لأن الاستفهام في غير الاستثبات لا يعمل فيه ما قبله على ما قرر في علم النحو ، ويجوز فيه عندي وجه آخر لم يذكروه وهو على مذهب سيبويه ، وهو : أن تكون أيهم موصولة مبنية على الضم ، وهي مفعول بتدرون ، وأقرب خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أقرب ، فيكون نظير قوله تعالى : { ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشدّ } وقد اجتمع شرط جواز بنائها وهو أنها مضافة لفظاً محذوف صدر صلتها { فريضة من الله } انتصب فريضة انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن معنى يوصيكم الله يفرض الله لكم .

وقال مكي وغيره هي حال مؤكدة لأن الفريضة ليست مصدراً .

{ إن الله كان عليماً حكيماً } أي عليماً بمصالح العباد ، حكيماً فيما فرض ، وقسم من المواريث وغيرها .

وتقدّم الكلام في كان إذا جاءت في نسبة الخبر لله تعالى ، ومن زعم أنها التامة وانتصب عليماً على الحال فقوله : ضعيف ، أو أنهار زائدة فقوله : خطأ .

/خ14