البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

الشح : قال ابن فارس البخل مع الحرص .

وتشاح الرجلان في الأمر لا يريدان أن يفوتهما ، وهو بضم الشين وكسرها .

وقال ابن عطية : الشح الضبط على المعتقدات والإرادة ، ففي الهمم والأموال ونحو ذلك مما أفرط فيه ، وفيه بعض المذمة .

وما صار إلى حيز الحقوق الشرعية وما تقتضيه المروءة فهو البخل ، وهو رذيلة .

لكنها قد تكون في المؤمن ومنه الحديث : " قيل : يا رسول الله ، أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال : نعم " وأما الشح ففي كل أحد ، ويدل عليه : { وأحضرت الأنفس الشح } و { من يوق شح نفسه } لكل نفس شحاً وقول النبي عليه السلام : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح " ولم يرد به واحداً بعينه ، وليس بحمد أن يقال هنا إن تصدق وأنت صحيح بخيل .

{ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يُصالحا بينهما صُلحاً } نزلت بسبب ابن بعكك وامرأته قاله : مجاهد .

وبسبب رافع بن خديج وامرأته خولة بنت محمد بن مسلمة ، وكانت قد أسنت فتزوج عليها شابة فآثرها ، فلم تصبر خولة فطلقها ثم راجعها ، وقال : إنما هي واحدة ، فإما أن تقوى على الأثرة وإلا طلقتك ففرت .

قاله : عبيدة ، وسليمان بن يسار ، وابن المسيب .

أو بسبب النبي صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة خشيت طلاقها فقالت : لا تطلقني واحبسني مع نسائك ، ولا تقسم لي ، ففعل ، فنزلت قاله : ابن عباس وجماعة .

والخوف هنا على بابه ، لكنه لا يحصل إلا بظهور أمارات ما تدل على وقوع الخوف .

وقيل : معنى خافت علمت .

وقيل : ظنت .

ولا ينبغي أن يخرج عن الظاهر ، إذ المعنى معه يصح .

والنشوز : أن يجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته ، والمودة التي بينهما ، وأن يؤذيها بسبب أو ضرب .

والإعراض : أن يقل محادثتها ومؤانستها لطعن في سن أو دمامة ، أو شين في خلق أو خلق أو ملال ، أو طموح عين إلى أخرى ، أو غير ذلك ، وهو أخف النشوز .

فرفع الجناح بينهما في الصلح بجميع أنواع من بذل من الزوج لها على أن تصبر ، أو بذل منها له على أن يؤثرها وعن أن يؤثر وتتمسك بالعصمة ، أو على صبر على الأثرة ونحو ذلك ، فهذا كله مباح .

ورتب رفع الجناح على توقع الخوف ، وظهور أمارات النشوز والإعراض ، وهو مع وقوع تلك وتحققها أولى .

لأنه إذا أبيح الصلح مع خوف ذلك فهو مع الوقوع أوكد ، إذ في الصلح بقاء الألفة والمودّة .

ومن أنواع الصلح أن تهب يومها لغيرها من نسائه كما فعلت سودة ، وأن ترضى بالقسم لها في مدة طويلة مرة ، أو تهب له المهر أو بعضه ، أو النفقة ، والحق الذي للمرأة على الزوج هو المهر والنفقة ، والقسم هو على إسقاط ذلك أو شيء منه على أن لا يطلقها ، وذلك جائز .

وقرأ الكوفيون : يصلحا من أصلح على وزن أكرم .

وقرأ باقي السبعة : يصالحا ، وأصله يتصالحا ، وأدغمت التاء في الصاد .

وقرأ عبيدة السلماني : يصالحا من المفاعلة .

وقرأ الأعمش : أن أصالحا ، وهي قراءة ابن مسعود ، جعل ماضياً .

وأصله تصالح على وزن تفاعل ، فأدغم التاء في الصاد ، واجتلبت همزة الوصل ، والصلح ليس مصدر الشيء من هذه الأفعال التي قرئت ، فإن كان اسماً لما يصلح به كالعطاء والكرامة مع أعطيت وأكرمت ، فيحتمل أن يكون انتصابه على إسقاط حرف الجرّ أي : يصلح أي بشيء يصطلحان عليه .

ويجوز أن يكون مصدراً لهذه الأفعال على حذف الزوائد .

{ والصلح خير } ظاهره أنّ خيراً أفعل التفضيل ، وأن المفضل عليه هو من النشوز والإعراض ، فحذف لدلالة ما قبله عليه .

وقيل : من الفرقة .

وقيل : من الخصومة ، وتكون الألف واللام في الصلح للعهد ، ويعني به صلحاً السابق كقوله تعالى : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } وقيل : الصلح عام .

وقيل : الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف ، ويندرج تحته صلح الزوجين ، ويكون المعنى : خير من الفرقة والاختلاف .

وقيل : خير هنا ليس أفعل تفضيل ، وإنما معناه خير من الخيور ، كما أن الخصومة شرّ من الشرور .

{ وأحضرت الأنفس الشح } هذا من باب المبالغة جعل الشح كأنه شيء معدّ في مكان .

وأحضرت الأنفس وسيقت إليه ، ولم يأت ، وأحضر الشح الأنفس فيكون مسوقاً إلى الأنفس ، بل الأنفس سيقت إليه لكون الشح مجبولاً عليه الإنسان ، ومركوزاً في طبيعته ، وخص المفسرون هذه اللفظة هنا .

فقال ابن عباس وابن جبير : هو شح المرأة بنصيبها من زوجها ومالها .

وقال الحسن وابن زيد : هو شح كل واحد منهما بحقه .

وقال الماتريدي : ويحتمل أن يراد بالشح الحرص ، وهو أن يحرص كل على حقه يقال : هو شحيح بمودّتك ، أي حريص على بقائها ، ولا يقال في هذا بخيل ، فكان الشح والحرص واحد في المعنى ، وإن كان في أصل الوضع الشح للمنع والحرص للمطلب ، فأطلق على الحرص الشح لأن كل واحد منهما سبب لكون الآخر ، ولأنّ البخل يحمل على الحرص ، والحرص يحمل على البخل انتهى .

وقال الزمخشري : في قوله : والصلح خير ، وهذه الجملة اعتراض وكذلك قوله : وأحضرت الأنفس الشح .

ومعنى إحضار الأنفس الشح : إن الشح جعل حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه ، يعني : أنها مطبوعة عليه .

والغرض أنّ المرأة لا تكاد تسمح بأن يقسم لها ، أو يمسكها إذا رغب عنها وأحب غيرها انتهى .

قوله .

والصلح خبر جملة اعتراضية ، وكذلك وأحضرت الأنفس الشح هو باعتبار أنَّ قوله : { وإن يتفرقا } معطوف على قوله : { فلا جناح عليهما أن يصلحا } وقوله : ومعنى إحضار الأنفس الشح إن الشح جعل حاضراً لا يغيب عنها أبداً ، جعله من باب القلب وليس بجيد ، بل التركيب القرآني يقتضي أنّ الأنفس جعلت حاضرة للشح لا تغيب عنه ، لأنّ الأنفس هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي التي كانت فاعلة قبل دخول همزة النقل ، إد الأصل : حضرت الأنفس الشح .

على أنه يجوز عند الجمهور في هذا الباب إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل على تفصيل في ذلك ؛ وإن كان الأجود عندهم إقامة الأول .

فيحتمل أن تكون الأنفس هي المفعول الثاني ، والشح هو المفعول الأول ، وقام الثاني مقام الفاعل .

والأولى حمل القرآن على الأفصح المتفق عليه .

وقرأ العدوي : الشح بكسر الشين وهي لغة .

{ وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } ندب تعالى إلى الإحسان في العشرة على النساء وإن كرهن مراعاة لحق الصحبة ، وأمر بالتقوى في حالهن ، لأنّ الزوج قد تحمله الكراهة للزوجة على أذيتها وخصومتها لا سيما وقد ظهرت منه أمارات الكراهة من النشوز والإعراض .

وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم بهنّ « فإنهنّ عوان عند الأزواج » .

وقال الماتريدي : وإنْ تحسنوا في أن تعطوهنّ أكثر من حقهنّ ، وتتقوا في أنْ لا تنقصوا من حقهن شيئاً .

أو أن تحسنوا في إيفاء حقهنّ والتسوية بينهنّ ، وتتقوا الجور والميل وتفضيل بعض على بعض .

أو أن تحسنوا في اتباع ما أمركم الله به من طاعتهنّ ، وتتقوا ما نهاكم عنه عن معصيته انتهى .

وختم آخر هذه بصفة الخبير وهو علم ما يلطف إدراكه ويدق ، لأنه قد يكون بين الزوجين من خفايا الأمور ما لا يطلع عليه إلا الله تعالى ، ولا يظهران ذلك لكل أحد .

وكان عمران بن حطان الخارجي من أدم الناس ، وامرأته من أجملهنّ ، فأجالت في وجهه نظرها ثم تابعت الحمد لله ، فقال : ما لك ؟ قالت : حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة قال : كيف ؟ قالت : لأنك رزقت مثلي فشكرت ، ورزقت مثلك فصبرت ، وقد وعد الله الجنة الشاكرين والصابرين .

/خ141