البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

الفتيل : فعيل بمعنى مفعول . { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } قال الجمهور : هم اليهود .

وقال الحسن وابن زيد : هم النصارى .

قال ابن مسعود : يزكي بعضهم بعضاً لتقبل عليهم الملوك وسفلتهم ، ويواصلوهم بالرشا .

وقال عطية عن ابن عباس : قالوا آباؤنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ويشفعون لنا .

وقال الضحاك والسدي في آخرين : أتى مرحب بن زيد وبحري بن عمرو وجماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعهم أطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : لا .

فقالوا : نحن كهم ما أذنبنا بالليل يكفر عنا بالنهار ، وما أذنبنا بالنهار يكفر عنا بالليل فنزلت .

وقيل : هو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه .

وعلى القول بأنهم اليهود والنصارى فتزكيتهم أنفسهم .

قال عكرمة ، ومجاهد ، وأبو مالك : كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم فيصلون بهم ويقولون : ليست لهم ذنوب ، فإذا صلى بنا المغفور له غفر لنا .

وقال قتادة والحسن : هو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } { كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } وفي الآية دلالة على الغض ممن يزكي نفسه بلسانه ويصفها بزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله .

وقوله صلى الله عليه وسلم : » والله إني لأمين في السماء ، أمين في الأرض « حين قال له المنافقون : إعدل في القسمة ، أكذاب لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه ، وشتان من شهد الله له بالتزكية ، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم .

قاله الزمخشري وفيه بعض تلخيص .

قال الراغب ما ملخصه : التزكية ضربان : بالفعل ، وهو أن يتحرى فعل ما يظهره وبالقول ، وهو الإخبار عنه بذلك ومدحه به .

وحظر أن يزكي الإنسان نفسه ، بل أن يزكي غيره ، إلا على وجه مخصوص .

فالتزكية إخبار بما ينطوي عليه الإنسان ، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى .

{ بل الله يزكي من يشاء } : بل إضراب عن تزكيتهم أنفسهم ، إذ ليسوا أهلاً لذلك .

واعلم أنّ المزكي هو الله تعالى ، وأنه تعالى هو المعتد بتزكيته ، إذ هو العالم ببواطن الأشياء والمطلع على خفياتها .

ومعنى يزكي من يشاء أي : من يشاء تزكيته بأن جعله طاهراً مطهراً ، فذلك هو الذي يصفه الله تعالى بأنه مزكي .

{ ولا يظلمون فتيلاً } إشارة إلى أقلّ شيء كقوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } فإذا كان تعالى لا يظلم مقدار فتيل ، فكيف يظلم ما هو أكبر منه ؟ وجوزوا أن يعود الضمير في : ولا يظلمون ، إلى الذين يزكون أنفسهم ، وأن يعود إلى من على المعنى ، إذ لو عاد على اللفظ لكان : ولا يظلم وهو أظهر ، لأنه أقرب مذكور ، ولقطع بل ما بعدها عن ما قبلها .

وقيل : يعود على المذكورين من زكى نفسه ، ومن يزكيه الله .

ولم يذكر ابن عطية غير هذا القول .

وقال الزمخشري : ولا يظلمون أي ، الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم ، أو من يشاء يثابون ولا ينقصون من ثوابهم ونحوه ، فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى انتهى .

وقرأ الجمهور : ألم تر بفتح الراء .

وقرأ السلمي : بسكونها إجراء للوصل مجرى الوقف .

وقيل : هي لغة قوم لا يكتفون بالجزم بحذف لام الفعل ، بل يسكنون بعده عين الفعل .

وقرأ الجمهور : ولا يظلمون بالياء .

وقرأت طائفة : ولا تظلمون بتاء الخطاب ، وانتصاب فتيلاً .

قال ابن عطية : على أنه مفعول ثان ، ويعني على تضمين تظلمون معنى ما يتعدى لاثنين ، والمعنى : مقدار فتيل ، وهو كناية عن أحقر شيء ، وإلى أنه الخيط الذي في شق النواة ذهب ابن عباس وعطاء ومجاهد ، وإلى أنه ما يخرج من بين الأصابع أو الكفين بالفتل ذهب ابن عباس أيضاً .

وأبو مالك والسدي ، وإلى أنه نفس الشق ذهب الحسن .

/خ57