البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِٱلۡأَزۡلَٰمِۚ ذَٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (3)

المنخنقة : هي التي تحتبس نفسها حتى تموت ، سواء أكان حبسها بحبل أم يد أم غير ذلك .

الوقد : ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت .

وقيل : الموقوذة المضروبة بعصا أو حجر لا حد له ، فتموت بلا ذكاة .

ويقال : وقذه النعاس غلبه ، ووقذه الحكم سكنه .

التردّي : السقوط في بئر أو التهوّر من جبل .

ويقال : ردى وتردّى أي هلك ، ويقال : ما أدري أين ردي ؟ أي ذهب .

النطيحة : هي التي ينطحها غيرها فتموت بالنطح ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل ، ولذلك ثبت فيها الهاء .

السبع : كل ذي ناب وظفر من الحيوان : كالأسد ، والنمر ، والدب ، والذئب ، والثعلب ، والضبع ، ونحوها .

وقد أطلق على ذوات المخالب من الطير سباع .

قال الشاعر :

وسباع الطير تغدو بطانا *** تتخطاهم فما تستقل

ومن العرب من يخص السبع بالأسد ، وسكون الباء لغة نجدية ، وسمع فتحها ، ولعل ذلك لغة .

التذكية : الذبح ، وتذكية النار رفعها ، وذكى الرجل وغيره أسن .

قال الشاعر :

على أعراقه تجري المذاكي *** وليس على تقلبه وجهده

النصب ، قيل جمع نصاب ، وهي حجارة منصوبة حول الكعبة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ، ولها أيضاً وتلطخ بالدماء ، ويوضع عليها اللحم قطعاً قطعاً ليأكل منها الناس .

وقيل : النصب مفرد .

قال الأعشى : وذا النصب المنصوب لا تقربنه .

الأزلام : القداح واحدها زلم وزُلم بضم الزاي وفتحها وهي السهام ، كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح ، وهي مكتوب على بعضها نهاني ربي ، وعلى بعضها أمرني ربي ، وبعضها غفل ، فإن خرج الآمر مضى لطلبته ، وإن خرج الناهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد الضرب .

اليأس : قطع الرجاء .

يقال : يئس ييئس وييئس ، ويقال : أيس وهو مقلوب من يئس ، ودليل القلب تخلف الحكم عن ما ظاهره أنه موجب له .

ألا ترى أنهم لم يقلبوا ياءه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فلم يقولوا آس كما قالوا هاب .

المخمصة : المجاعة التي يخمص فيها البطون أي تضمر ، والخمص ضمور البطن ، والخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال : خمصانة ، وبطن خميص ، ومنه أخمص القدم .

ويستعمل كثيراً في الجوع والغرث .

قال الأعشى :

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم *** وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

وقال آخر :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا *** فإن زمانكم زمن خميص

{ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به } تقدم مثل هذه الجملة في البقرة .

وقال هنا ابن عطية : ولحم الخنزير مقتض لشحمه بإجماع انتهى .

وليس كذلك ، فقد خالف فيه داود وغيره ، وتكلمنا على ذلك في البقرة ، وتأخر هنا به وتقدم هناك تفنناً في الكلام واتساعاً ، ولكون الجلالة وقعت هناك فصلاً أولاً كالفصل ، وهنا جاءت معطوفات بعدها ، فليست فصلاً ولا كالفصل ، وما جاء كذلك يقتضي في أكثر المواضع المد .

{ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع } تقدم شرح هذه الألفاظ في المفردات .

قال ابن عباس وقتادة : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها ، فإذا ماتت أكلوها .

وقال أبو عبد الله : ليس الموقوذة إلا في ملك ، وليس في صيد وقيذ .

وقال مالك وغيره من الفقهاء في : الصيد ما حكمه حكم الوقيذ ، وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم في المعراض : « وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ » .

وقال ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك : النطيحة الشاة تنطحها أخرى فيموتان ، أو الشاة تنطحها البقر والغنم .

وقال قوم : النطيحة المناطحة ، لأن الشاتين قد يتناطحان فيموتان .

قال ابن عطية : كل ما مات ضغطاً فهو نطيح .

وقرأ عبد الله وأبو ميسرة : والمنطوحة والمعنى في قوله وما أكل السبع : ما افترسه فأكل منه .

ولا يحمل على ظاهره ، لأن ما فرض أنه أكله السبع لا وجود له فيحرم أكله ، ولذلك قال الزمخشري : وما أكل السبع بعضه ، وهذه كلها كان أهل الجاهلية يأكلونها .

وقرأ الحسن والفياض ، وطلحة بن سلمان ، وأبو حيوة : السبع بسكون الباء ، ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غير المشهور ، ورويت عن أبي عمرو .

وقرأ عبد الله : وأكيلة السبع .

وقرأ ابن عباس : وأكيل السبع وهما بمعنى مأكول السبع ، وذكر هذه المحرمات هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله : { إلا ما يتلى عليكم } وبهذا صار المستثنى منه والمستثنى معلومين .

{ إلا ما ذكيتم } قال علي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابراهيم ، وطاووس ، وعبيد بن عمير ، والضحاك ، وابن زيد ، والجمهور : هو راجع إلى المذكورات أي من قوله : والمنخنقة إلى وما أكل السبع .

فما أدرك منها بطرف بعض ، أو بضرب برجل ، أو يحرك ذنباً .

وبالجملة ما تيقنت فيه حياة ذكي وأكل .

وقال بهذا مالك في قول ، والمشهور عنه وعن أصحابه المدنيين : أنّ الذكاة في هذه المذكورات هي ما لم ينفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ، ومتى صارت إلى ذلك كانت في حكم الميتة .

وعلى هذين القولين فالاستثناء متصل ، لكنه خلاف في الحال التي يؤثر فيها الذكاة في المذكورات .

وكان الزمخشري مال إلى مشهور قول مالك فإنه قال : إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب وداجه .

وقيل : الاستثناء متصل عائد إلى أقرب مذكور وهو ما أكل السبع ومختص به ، والمعنى : إلا ما أدركتم فيه حياة مما أكل السبع فذكيتموه ، فإنه حلال .

وقيل : هو استثناء منقطع والتقدير : لكنْ ما ذكيتم من غير هذه فكلوه .

وكان هذا القائل رأى أنّ هذه الأوصاف وجدت فيما مات بشيء منها ، إما بالخنق ، وإما بالوقذ ، أو التردي ، أو النطح ، أو افتراس السبع ، ووصلت إلى حد لا تعيش فيه بسب بوصف من هذه الأوصاف على مذهب من اعتبر ذلك ، فلذلك كان الاستثناء منقطعاً .

والظاهر أنه استثناء متصل ، وإنما نص على هذه الخمسة وإن كان في حكم الميتة ، ولم يكتف بذكر الميتة لأن العرب كانت تعتقد أنّ هذه الحوادث على المأكول كالذكاة ، وأن الميتة ما ماتت بوجع دون سبب يعرف من هذه الأسباب .

وظاهر قوله : إلا ما ذكيتم ، يقتضي أنّ ما لا يدرك لا يجوز أكله كالجنين إذا خرج من بطن أمه المذبوحة ميتاً ، إذا كان استثناء منقطعاً فيندرج في عموم الميتة ، وهذا مذهب أبي حنيفة .

وذهب الجمهور إلى جواز أكله .

والحديث الذي استنبطوا منه الجواز حجة لأبي حنيفة لا لهم .

وهو « إذكاة الجنين ذكاة أمه » المعنى على التشبيه أي ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه كما ذكاتها الذبح فكذلك ذكاته الذبح ولو كان كما زعموا لكان التركيب ذكاة أم الجنين ذكاته .

{ وما ذبح على النصب } قال مجاهد وقتادة وغيرهما : هي حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها .

قال ابن عباس : ويحلون عليها .

قال ابن جريج : وليست بأصنام ، الصنم مصور ، وكانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة ، فلما جاء الإسلام قال المسلمون : نحن أحق أنْ نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكره ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت .

وما ذبح على النصب ونزل أن ينال الله لحومها ولا دماؤها انتهى .

وكانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ، ويحلون عليها أنصاب مكة ، ومنها الحجر المسمى بسعد .

قال ابن زيد : ما ذبح على النصب ، وما أهل به لغير الله شيء واحد .

وقال ابن عطية : ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله ، لكنْ خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له .

وقد يقال للصنم أيضاً : نصب ، لأنه ينصب انتهى .

وقرأ الجمهور : النُصُب بضمتين .

وقرأ طلحة بن مصرف : بضم النون ، وإسكان الصاد .

وقرأ عيسى بن عمر : بفتحتين ، وروي عنه كالجمهور .

وقرأ الحسن : بفتح النون ، وإسكان الصاد .

{ وأن تستقسموا بالأزلام } هذا معطوف على ما قبله أي : وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وهو طلب معرفة القسم ، وهو النصيب أو القسم ، وهو المصدر .

قال ابن جريج : معناه أن تطلبوا على ما قسم لكم بالأزلام ، أو ما لم يقسم لكم انتهى .

وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها .

وروي عنه أيضاً : أنها سهام العرب ، وكعاب فارس ، وقال سفيان ووكيع : هي الشطرنج .

وقيل : الأزلام حصى كانوا يضربون بها ، وهي التي أشار إليها الشاعر بقوله :

لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى *** ولا زاجرات الطير ما الله صانع

وروي هذا عن ابن جبير قالوا : وأزلام العرب ثلاثة أنواع : أحدها : الثلاثة التي يتخذها كل إنسان لنفسه في أحدها افعل وفي الآخر لا تفعل والثالث غفل فيجعلها في خريطة ، فإذا أراد فعل شيء دخل يده في الخريطة منسابة ، وائتمر بما خرج له من الآمر أو الناهي .

وإن خرج الغفل أعاد الضرب .

والثاني : سبعة قداح كانت عندها في جوف الكعبة ، في أحدها العقل في أمر الديات من يحمله منهم فيضرب بالسبعة ، فمن خرج عليه قدح العقل لزمه العقل ، وفي آخر تصح ، وفي آخر لا ، فإذا أرادوا أمراً ضرب فيتبع ما يخرج ، وفي آخر منكم ، وفي آخر من غيركم ، وفي آخر ملصق ، فإذا اختلفوا في إنسان أهو منهم أمْ من غيرهم ضربوا فاتبعوا ما خرج ، وفي سائرها لأحكام المياه إذا أرادوا أن يحفروا لطلب المياه ضربوا بالقداح ، وفيها ذلك القداح ، فحيث ما خرج عملوا به .

وهذه السبعة أيضاً متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على ما كانت في الكعبة عند هبل .

والثالث : قداح الميسر وهي عشرة ، وتقدم شرح الميسر في سورة البقرة .

{ ذلكم فسق } الظاهر أنّ الإشارة إلى الاستقسام خاصة ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس .

وقال الزمخشري : إشارة إلى الاستقسام ، وإلى تناول ما حرم عليهم ، لأن المعنى : حرم عليهم تناول الميتة وكذا وكذا .

( فإن قلت ) : لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام ليعرف الحال فسقاً ؟ ( قلت ) : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب ، وقال :

{ لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } واعتقاد أن إليه طريقاً وإلى استنباطه .

وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله تعالى ، وما يبديه أنه أمره أو نهاه الكهنة والمنجمون بهذه المثابة ، وإن كان أراد بالرب الصنم .

فقد روي أنهم كانوا يحلون بها عند أصنامهم ، وأمره ظاهر انتهى .

قال الزمخشري في اسم الإشارة رواه عن ابن عباس عليّ بن أبي طلحة ، وهو قول ابن جبير .

قال الطبري : ونهى الله عن هذه الأمور التي يتعاطاها الكهان والمنجمون ، لما يتعلق بها من الكلام في المغيبات .

وقال غيره : العلة في تحريم الاستقسام بالأزلام كونها يؤكل بها المال بالباطل ، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاماً أو ينكحوا أو يدفنوا ميتاً أو شكوا في نسب ، ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور ، فالمائة للضارب بالقداح ، والجزور ينحر ويؤكل ، ويسمون صاحبهم ويقولون لهبل : يا إلهنا هذا فلان أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه ، ويضرب صاحب القداح فما خرج عمل به ، فإن خرج لا أخروه عامهم حتى يأتوا به مرة أخرى ، ينتهون في كل أمورهم إلى ما خرجت به القداح .

{ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } الألف واللام فيه للعهد وهو يوم عرفة قاله : مجاهد ، وابن زيد .

وهو يوم نزولها بعد العصر في حجة الوداع يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف على ناقته ، وليس في الموقف مشرك .

وقيل : اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع .

وقيل : سنة ثمان ، ونادى مناديه بالأمان لمن لفظ بشهادة الإسلام ، ولمن وضع السلاح ، ولمن أغلق بابه .

وقال الزجاح : لم يرد يوماً بعين ، وإنما المعنى : الآن يئسوا ، كما تقول : أنا اليوم قد كبرت انتهى .

واتبع الزمخشري الزجاج فقال : اليوم لم يرد به يوماً بعينه ، وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية ، كقولك : كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم أشيب ، فلا يريد بالأمس الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك .

ونحوه الآن في قوله :

الآن لما ابيض مسربتي *** وعضضت من نابي على جدم

انتهى .

والذين كفروا : مشركو العرب .

قال ابن عباس ، والسدي ، وعطاء : أيسوا من أن ترجعوا إلى دينهم .

وقال ابن عطية : ظهور أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وظهور دينه ، يقتضي أن يئس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان ، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه ، لأنّ هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار .

ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون فظنها هزيمة .

ألا بطل السحر اليوم .

وقال الزمخشري : يئسوا منه أن يبطلوه وأن يرجعوا محللين لهذه الخبائث بعدما حرمت عليكم .

وقيل : يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأنّ الله وفى بوعده من إظهاره على الدين كله انتهى .

وقرأ أبو جعفر : ييس من غير همز ، ورويت عن أبي عمرو .

{ فلا تخشوهم فاخشون } قال ابن جبير : فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم .

وقال ابن السائب : فلا تخشوهم أن يظهروا على دينكم .

وقيل : فلا تخشوا عاقبتهم .

والظاهر أنه نهى عن خشيتهم إياهم ، وأنهم لا يخشون إلا الله تعالى .

{ اليوم أكملت لكم دينكم } يحتمل اليوم المعاني التي قيلت في قوله : اليوم يئس .

قال الجمهور : وإكماله هو إظهاره ، واستيعاب عظم فرائضه ، وتحليله وتحريمه .

قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآيات الربا ، وآية الكلالة ، وغير ذلك ، وإنما كمل معظم الدين ، وأمر الحج ، إنْ حجوا وليس معهم مشرك .

وخطب الزمخشري في هذا المعنى فقال : كفيتكم أمر عدوكم ، وجعلت اليد العليا لكم ، كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد إذا كفوا من ينازعهم الملك ، ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم .

أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه من تعليم الحلال والحرام ، والتوقيف على الشرائع ، وقوانين القياس ، وأصول الاجتهاد انتهى .

وهذا القول الثاني هو : قول ابن عباس والسدي قالا : اكمال فرائضه وحدوده ، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم ، فعلى هذا يكون المعنى : أكملت لكم شرائع دينكم .

وقال قتادة وابن جبير : كما له أن ينفي المشركين عن البيت ، فلم يحج مشرك .

وقال الشعبي : كمال الدين هو عزه وظهوره ، وذل الشرك ودروسه ، لا تكامل الفرائض والسنن ، لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض .

وقيل : إكماله إلا من من نسخه بعده كما نسخ به ما تقدّم .

وقال القفال : الدين ما كان ناقصاً البتة ، بل كانت الشرائع تنزل في كل وقت كافية في ذلك الوقت ، إلا أنه تعالى كان عالماً في أول المبعث بأنّ ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ، وكان ينسخ بعد الثبوت ويزيد بعد العدم ، وأما في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة ، وأحكم ثباتها إلى يوم القيامة .

وروي أن هذه الآية لما نزلت يوم الحج الأكبر ، وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر بن الخطاب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما يبكيك ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص .

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : صدقتَ » .

{ وأتممت عليكم نعمتي } أي في ظهور الإسلام ، وكمال الدين ، وسعة الأحوال ، وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية ، إلى دخول الجنة ، والخلود ، وحسَّن العبارة الزمخشري فقال : بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، وإن لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان انتهى .

فكلامه مجموع أقوال المتقدّمين .

قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة : إتمام النعمة منع المشركين من الحج .

وقال السدي : هو الإظهار على العدو .

وقال ابن زيد : بالهداية إلى الإسلام .

وقال الزمخشري : وأتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال : وأتممت عليكم نعمتي بذلك ، لأنه لا نعمة من نعمة الإسلام .

{ ورضيت لكم الإسلام ديناً } يعني : اخترته لكم من بين الأديان ، وأذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } { إن هذه أمتكم أمة واحدة } قاله الزمخشري .

وقال ابن عطية الرضا في : هذا الموضع يحتمل أن يكون بمعنى الإرادة ، ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه ، لأنّ الرضا من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال ، والله تعالى قد رضي الإسلام وأراده لنا ، وثم أشياء يريد الله وقوعها ولا يرضاها .

والإسلام هنا هو الدين في قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } انتهى وكلامه يدل على أنّ الرضا إذا كان من صفات الذات فهو صفة تغاير الإرادة .

وقيل : المعنى أعلمتكم برضائي به لكم ديناً ، فإنه تعالى لم يزل راضياً بالإسلام لنا ديناً ، فلا يكون الاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إنْ حمل على ظاهره .

وقيل : رضيت عنكم إذا تعبدتم لي بالدين الذي شرعته لكم .

وقيل : رضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم ديناً كاملاً إلى آخر الأبد لا ينسخ منه شيء .

{ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } هذا متصل بذكر المحرمات وذلكم فسق أكده به وبما بعده يعني التحريم ، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعم التامة ، والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملك .

وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة .

وقراءة ابن محيصن : فمن اطرّ بإدغام الضاد في الطاء .

ومعنى متجانف : منحرف ومائل .

وقرأ الجمهور : متجانف بالألف .

وقرأ أبو عبد الرحمن ، والنخعي وابن وثاب : متجنف دون ألف .

قال ابن عطية وهو أبلغ في المعنى من متجانف ، وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه .

ألا ترى أنك إذا قلت : تمايل الغصن ، فإنّ ذلك يقتضي تأوّداً ومقاربة ميل ، وإذا قلت : تميل ، فقد ثبت الميل .

وكذلك تصاون الرجل وتصوّن وتغافل وتغفل انتهى .

والإثم هنا قيل : أنْ يأكل فوق الشبع .

وقيل : العصيان بالسفر .

وقيل : الإثم هنا الحرام ، ومن ذلك قول عمر : ما تجأنفنا فيه لإثم ، ولا تعهدنا ونحن نعلمه .

أي : ما ملنا فيه لحرام .