{ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } قال البراء بن عازب : هي آخر آية نزلت .
وقال كثير من الصحابة ، من آخر ما نزل .
وقال جابر بن عبد الله : نزلت بسبب عادني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فقلت : يا رسول الله كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات ولم يكن لي ولد ولا والد ؟ فنزلت .
وقيل : إنّ جابراً أتاه في طريق مكة عام حجة الوداع فقال : إن لي أختاً ، فكم آخذ من ميراثها إن ماتت ، فنزلت .
وتقدّم الكلام في لفظ الكلالة اشتقاقاً ومدلولاً وكان أمرها أمراً مشكلاً ، روي عنه في أخبارها روايات ، وفي حديثه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " يكفيك آية الصيف التي نزلت في آخر سورة النساء " وقد روى أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " التي أنزلت في الصيف هي وإن كان رجل يورث كلاله " والظاهر أنها { يستفتونك } لأن البراء قال : هي آخر آية نزلت .
قال ابن عطية : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفيك منها آية الصيف بيان فيه كفاية وجلاء .
ولا أدري ما الذي أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه اللهم إلا أن يكون دلالة اللفظ اضطربت على كثير من الناس ، ولذلك قال بعضهم : الكلالة الميت نفسه .
وقال آخرون : الكلالة المال إلى غير ذلك من الخلاف انتهى كلامه .
وقد ختمت هذه السورة بهذه الآية كما بدئت أولاً بأحكام الأموال في الإرث وغيره ، ليتشاكل المبدأ والمقطع ، وكثيراً ما وقع ذلك في السور .
روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في خطبته : « ألا إنّ آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد ، والآية الثانية أنزلها الله في الزوج والزوجة والأخوة من الأم ، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولى الأرحام » في الكلالة متعلق بيفتيكم على طريق أعمال الثاني .
{ وإن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } المراد بالولد الابن ، وهو اسم مشترك يجوز استعماله للذكر والأنثى ، لأن الابن يسقط الأخت ، ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس .
والمراد بالأخت الشقيقة ، أو التي لأب دون التي لأم ، لأن الله فرض لها النصف ، وجعل أخاها عصبة .
وقال : للذكر مثل حظ الأنثيين .
وأما الأخت للأم فلها السدس في آية المواريث ، سوى بينها وبين أخيها .
وارتفع امرؤ على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده ، والجملة من قوله : ليس له ولد ، في موضع الصفة لامرؤ ، أي : إنْ هلك امرؤ غير ذي ولد .
وفيه دليل على جواز الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة في باب الاشتغال ، فعلى هذا القول زيداً ضربته العاقل .
وكلما جاز الفصل بالخبر جاز بالمفسر ، ومنع الزمخشري أن يكون قوله : ليس له ولد ، جملة حالية من الضمير في هلك ، فقال : ومحل ليس له ولد الرفع على الصفة ، لا النصب على الحال .
وأجاز أبو البقاء فقال : ليس له ولد الجملة في موضع الحال من الضمير في هلك ، وله أخت جملة حالية أيضاً .
والذي يقتضيه النظر أنّ ذلك ممتنع ، وذلك أنّ المسند إليه حقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف ، فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له ، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، فصارت كالمؤكدة لما سبق .
وإذا تجاذب الاتباع والتقييد مؤكد أو مؤكد بالحكم ، إنما هو للمؤكد ، إذ هو معتمد الإسناد الأصلي .
فعلى هذا لو قلت : ضربت زيداً ضربت زيداً العاقل ، انبغى أن يكون العاقل نعتاً لزيد في الجملة الأولى ، لا لزيد في الجملة الثانية ، لأنها جملة مؤكدة للجملة الأولى .
والمقصود بالإسناد إنما هو الجملة الأولى لا الثانية .
قيل : وثم معطوف محذوف للاختصار ، ودلالة الكلام عليه .
والتقدير : ليس له ولد ولا والد .
{ وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } أي إنْ قدّر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها .
والمراد بالولد هنا الابن ، لأن الابن يسقط الأخ دون البنت .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الابن لا يسقط الأخ وحده ، فإن الأب نظيره في الإسقاط ، فلم اقتصر على نفي الولد ؟ ( قلت ) : وكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة وهو قوله عليه السلام : « ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي عصبة » ذكر الأب أولى من الأخ ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة .
ويجوز أن يدل بحكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد ، لأنّ الولد أقرب إلى الميت من الوالد .
فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب ، فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد ، ولأن الكلالة تتناول انتفاء الوالد والولد جميعاً ، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالاً على انتفاء الآخر انتهى كلامه .
والضمير في قوله : وهو وفي يرثها عائد إلى ما تقدم لفظاً دون معنى ، فهو من باب عندي درهم ونصفه ، لأن الهالك لا يرث ، والحية لا تورث ، ونظيره في القرآن : { وما يعمَّر من معمر ولا ينقص من عمره } وهذه الجملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب ، وهي دليل جواب الشرط الذي بعدها .
{ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } قالوا : الضمير في كانتا ضمير أختين دل على ذلك قوله : وله أخت .
وقد تقرر في علم العربية أن الخبر يفيد ما لا يفيده الاسم .
وقد منع أبو عليّ وغيره سيد الجارية مالكها ، لأن الخبر أفاد ما أفاده المبتدأ .
والألف في كانتا تفيد التثنية كما أفاده الخبر ، وهو قوله اثنتين .
وأجاب الأخفش وغيره بأن قوله : اثنتين يدل على عدم التقييد بالصغر أو الكبر أو غيرهما من الأوصاف ، فاستحق الثلثان بالاثنينية مجردة عن القيود ، فلهذا كان مفيداً وهذا الذي قالوه ليس بشيء ، لأن الألف في الضمير للاثنتين يدل أيضاً على مجرد الاثنينية من غير اعتبار قيد ، فصار مدلول الألف ومدلول اثنتين سواء ، وصار المعنى : فإن كانتا الأختان اثنتين ، ومعلوم أنّ الأختين اثنتان .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : إلى مَن يرجع ضمير التثنية والجمع في قوله : فإن كانتا اثنتين ، وإن كانوا أخوة ؟ ( قلت ) : أصله فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين ، وإن كان من يرث بالأخوة ذكوراً وإناثاً .
وإنما قيل : فإن كانتا ، وإن كانوا .
كما قيل : من كانت أمك ، فكما أنث ضمير من لمكان تأنيث الخبر ، كذلك ثنى ، وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا ، لمكان تثنية الخبر وجمعه انتهى .
وهو تابع في هذا التخريج غيره ، وهو تخريج لا يصح ، وليس نظير من كانت أمك ، لأنَّ مَن صرّح بها ولها لفظ ومعنى .
فمَن أنّث راعى المعنى ، لأن التقدير : أية أم كانت أمك .
ومدلول الخبر في هذا مخالف لمدلول الاسم ، بخلاف الآية ، فإنّ المدلولين واحد ، .
ولم يؤنث في مَن كانت أمك لتأنيث الخبر ، إنّما أنث مراعاة لمعنى من إذ أراد بها مؤنثاً .
ألا ترى إنك تقول : من قامت فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردت السؤال عن مؤنث ، ولا خبر هنا فيؤنث قامت لأجله .
والذي يظهر لي في تخريج الآية غير ما ذكر .
وذلك وجهان : أحدهما : إنّ الضمير في كانتا لا يعود على أختين ، إنما هو يعود على الوارثتين ، ويكون ثم صفة محذوفة ، واثنتين بصفته هو الخبر ، والتقدير : فإن كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات فلهما الثلثان مما ترك ، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيد الاسم ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز .
والوجه الثاني : أن يكون الضمير عائداً على الأختين كما ذكروا ، ويكون خبر كان محذوفاً لدلالة المعنى عليه ، وإن كان حذفه قليلاً ، ويكون اثنتين حالاً مؤكدة والتقدير : فإن كانت أختان له أي للمرء الهالك .
ويدل على حذف الخبر الذي هو له وله أخت ، فكأنه قيل : فإن كانت أختان له ، ونظيره أن تقول : إن كان لزيد أخ فحكمه كذا ، وإن كان أخوان فحكمهما كذا .
{ وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } يعني أنهم يحوزون المال على ما تقرر في أرث الأولاد من أنّ للذكر مثل حظ الأنثيين .
والضمير في كانوا إنْ عاد على الأخوة فقد أفاد الخبر بالتفصيل المحتوي على الرجال والنساء ، ما لم يفده الاسم ، لأن الاسم ظاهر في الذكور .
وإن عاد على الوارث فظهرت إفادة الخبر ما لا يفيد المبتدأ ظهوراً واضحاً .
والمراد بقوله : أخوة الإخوة والأخوات ، وغلب حكم المذكر .
وقرأ ابن أبي عبلة : فإن للذكر مثل حظ الأنثيين .
{ يبين الله لكم أن تضلوا } أنْ تضلوا مفعول من أجله ، ومفعول يبين محذوف أي : يبين لكم الحق .
فقدره البصري والمبرد وغيره : كراهة أن تضلوا .
وقرأ الكوفي ، والفراء ، والكسائي ، وتبعهم الزجاج : لأن لا تضلوا ، وحذف لا ومثله عندهم قول القطامي :
رأينا ما رأى البصراء منا *** فآلينا عليها أن تباعا
أي أن لا تباعا ، وحكى أبو عبيدة قال : حدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر فيه : « لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة » فاستحسنه أي لئلا يوافق .
وقال الزجاج هو مثل قوله إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا أي لأن لا تزولا ورجح أبو عليّ قول المبرد بأن قال حذف المضاف أسوغ وأشبع من حذف لا .
وقيل أن تضلوا مفعول به أي يبين الله لكم الضلالة أن تضلوا فيها .
{ والله بكل شيء عليم } يعلم مصالح العباد في المبدأ والمعاد ، وفيما كلفهم به من الأحكام .
وقال أبو عبد الله الرازي : في هذه السورة لطيفة عجيبة وهي أنّ أولها مشتمل على كمال تنزه الله تعالى وسعة قدرته ، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم ، وهذان الوصفان بهما تثبت الربوبية والإلهية والجلال والعزة ، وبهما يجب أن يكون العبد منقاداً للتكاليف .