البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمۡ يَقُولُونَ نَخۡشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٞۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرٖ مِّنۡ عِندِهِۦ فَيُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ نَٰدِمِينَ} (52)

الدائرة : واحدة الدوائر ، وهي صروف الدهر ، ودوله ، ونوازله .

وقال الشاعر :

ويعلم أن الدائرات تدور ***

{ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، والذين في قلوبهم مرض عبد الله بن أبيّ ومن تبعه من المنافقين ، أو من مؤمني الخزرج متابعة جهالة وعصبية ، فهذا الصنف له حصة من مرض القلب قاله ابن عطية .

ومعنى يسارعون فيهم : أي في موالاتهم ويرغبون فيها .

وتقدّم الكلام في المرض في أول البقرة .

وقرأ ابراهيم بن وثاب : فيرى بالياء من تحت ، والفاعل ضمير يعود على الله ، أو الرأي .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الذين فاعل ترى ، والمعنى : أن يسارعوا ، فحذفت أن إيجازاً انتهى .

وهذا ضعيف لأنّ حذف إنْ من نحو هذا لا ينقاس .

وقرأ قتادة والأعمش : يسرعون بغير ألف من أسرع ، وفترى أن كانت من رؤية العين كان يسارعون حالاً ، أو من رؤية القلب ففي موضع المفعول الثاني ، يقولون : نخشى أن تصيبنا دائرة ، هذا محفوظ من قول عبد الله بن أُبيّ ، وقاله معه منافقون كثيرون .

قال ابن عباس : معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا .

وقيل : الدائرة من جدب وقحط .

ولا يميروننا ولا يقرضوننا .

وقيل : دائرة تحوج إلى يهود وإلى معونتهم .

{ فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده } هذا بشارة للرسول والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصرة .

قال قتادة : عنى به القضاء في هذه النوازل والفتاح الفاضي .

وقال السدّي : يعني به فتح مكة .

قال ابن عطية : وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلو كلمته فيستغني عن اليهود .

وقيل : فتح بلاد المشركين .

وقيل : فتح قرى اليهود ، يريدون قريظة والنضير وفدك وما يجري مجراهما .

وقيل : الفتح الفرج ، قاله ابن قتيبة .

وقيل في قوله تعالى : أو أمر من عنده } هو إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم ، لم يكن للناس فيه فعل بل طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب ، وقتل قريظة وسبي ذراريهم قاله : ابن السائب ومقاتل .

وقيل : إذلالهم حتى يعطوا الجزية .

وقيل : الخصب والرّخاء قاله ابن قتيبة .

وقال الزجاج : إظهار أمر المنافقين وتربصهم الدوائر .

وقال ابن عطية : ويظهر أنّ هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو مما ترتب على سعي النبي وأصحابه ونسب جدهم وعملهم ، فوعد الله تعالى إمّا بفتح يقتضي تلك الأعمال ، وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع ، هو أيضاً فتح لا يقع للبشر فيه تسبب انتهى .

{ فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين } أي يصيرون نادمين على ما حدثتهم أنفسهم أنّ أمر النبي لا يتم ، ولا تكون الدولة لهم إذا أتى الله بالفتح أو أمر من عنده .

وقيل : موالاتهم .

وقرأ ابن الزبير : فتصبح الفساق جعل الفساق مكان الضمير .

قال ابن عطية : وخص الإصباح بالذكر لأنّ الإنسان في ليله مفكر ، فعند الصباح يرى الحالة التي اقتضاها فكره انتهى .

وتقدم لنا نحو من هذا الكلام ، وذكرنا أن أصبح تأتي بمعنى صار من غير اعتبار كينونة في الصباح ، واتفق الحوفي وأبو البقاء على أن قوله : فيصبحوا معطوف على قوله : { أن يأتي } وهو الظاهر ، ومجور ذلك هو الفاء ، لأن فيها معنى التسبب ، فصار نظير الذي يطير فيغضب زيد الذباب ، فلو كان العطف بغير الفاء لم يصح ، لأنه كان يكون معطوفاً على أن يأتي خبر لعسى ، وهو خبر عن الله تعالى ، والمعطوف على الخبر خبر ، فيلزم أن يكون فيه رابط إن كان مما يحتاج إلى الرابط ، ولا رابط هنا ، فلا يجوز العطف .

لكنّ الفاء انفردت من بين سائر حروف العطف بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة كما مثله ، أو صفة نحو مررت برجل يبكي فيضحك عمرو ، أو خبر نحو زيد يقوم فيقعد بشر .

وجوز أن لا يكون معطوفاً على أن يأتي ، ولكنه منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب التمني ، إذ عسى تمنّ وترج في حق البشر ، وهذا فيه نظر .