البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلۡ هُوَ ٱلۡقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبۡعَثَ عَلَيۡكُمۡ عَذَابٗا مِّن فَوۡقِكُمۡ أَوۡ مِن تَحۡتِ أَرۡجُلِكُمۡ أَوۡ يَلۡبِسَكُمۡ شِيَعٗا وَيُذِيقَ بَعۡضَكُم بَأۡسَ بَعۡضٍۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَفۡقَهُونَ} (65)

الشيعة : الفرقة تتبع الأخرى ويجمع على أشياع ، وشيعت فلاناً اتبعته وتقول : العرب شاعكم السلام أي اتبعكم وأشاعكم الله السلم أي اتبعكم .

{ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم } هذا إخبار يتضمن الوعيد ، والأظهر من نسق الآيات أنه خطاب للكفار وهو مذهب الطبري .

وقال أبي وأبو العالية وجماعة : هي خطاب للمؤمنين .

قال أبي : هنّ أربع : عذاب قبل يوم القيامة مضت اثنتان قبل وفاة الرسول بخمس وعشرين سنة لبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض ، وثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم .

وقال الحسن : بعضها للكفار بعث العذاب من فوق ومن تحت وسائرها للمؤمنين ، انتهى .

وحين نزلت استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم وقال في الثالثة : « هذه أهون أو هذه أيسر » واحتج بهذا من قال هي للمؤمنين .

وقال الطبري : لا يمتنع أن يكون عليه لسلام تعوذ لأمته مما وعد به الكفار وهون الثالثة لأنها في المعنى هي التي دعا فيها فمنع كما في حديث الموطأ وغيره .

والظاهر { من فوقكم أو من تحت أرجلكم } الحقيقة كالصواعق وكما أمطر على قوم لوط وأصحاب الفيل الحجارة وأرسل على قوم نوح الطوفان ، كقوله : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } وكالزلازل ونبع الماء المهلك وكما خسف بقارون .

وقال السدي عن أبي مالك وابن جبير : الرجم والخسف .

وقال ابن عباس : { من فوقكم } ولاة الجور و { من تحت أرجلكم } سفلة السوء وخدمته .

وقيل : حبس المطر والنبات .

وقيل : { من فوقكم } خذلان السمع والبصر والآذان واللسان و { من تحت أرجلكم } خذلان الفرج والرجل إلى المعاصي ؛ انتهى ، وهذا والذي قبله مجاز بعيد .

{ أو يلبسكم شيعاً } أي يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى كلّ فرقة منكم مشايعة لإمام ومعنى خلطهم انشاب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال كقول الشاعر :

وكتيبة لبستها بكتيبة *** حتى إذا التبست نفضت لها يدي

فتركتهم تقص الرماح ظهورهم *** ما بين منعفر وآخر مسند

قال ابن عباس ومجاهد : تثبت فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقاً .

وقيل : المعنى يقوي عدوكم حتى يخالطوكم .

وقرأ أبو عبد الله المدني { يلبسكم } بضمّ الياء من اللبس استعارة من اللباس فعلى فتح الياء يكون { شيعاً } حالاً .

وقيل : مصدر والعامل فيه { يلبسكم } من غير لفظه ؛ انتهى .

ويحتاج في كونه مصدراً إلى نقل من اللغة وعلى ضم الياء يحتمل أن يكون التقدير أو يلبسكم الفتنة شيعاً ويكون { شيعاً } حالاً ، وحذف المفعول الثاني ويحتمل أن يكون المفعول الثاني شيعاً كان الناس يلبسهم بعضهم بعضاً كما قال الشاعر :

لبست أناساً فأفنيتهم *** وغادرت بعد أناس أناسا

وهي عبارة عن الخلطة والمعايشة .

{ ويذيق بعضكم بأس بعض } البأس الشدة من قتل وغيره والإذاقة والإنالة والإصابة هي من أقوى حواس الاختبار وكثر استعمالها في كلام العرب وفي القرآن قال تعالى : { ذوقوا مس سقر } وقال الشاعر :

أذقناهم كؤوس الموت صرفاً *** وذاقوا من أسنتنا كؤوسا

وقرأ الأعمش : ونذيق بالنون وهي نون عظمة الواحد وهي التفات فأيدته نسبة ذلك إلى الله على سبيل العظمة والقدرة القاهرة .

{ انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } هذا استرجاع لهم ولفظة تعجب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى إنا نسألك في مجيء الآيات أنواعاً رجاء أن يفقهوا ويفهموا عن الله تعالى ، لأن في اختلاف الآيات ما يقتضي الفهم إن غربت آية لم تعزب أخرى .