البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

فرادى : الألف فيه للتأنيث ومعناها فرداً فرداً ، ويقال فيه فراد منوناً على وزن فعال وهي لغة تميم وفراد غير مصروف كآحاد وثلاث وحكاه أبو معاذ ، قال أبو البقاء : من صرفه جعله جمعاً مثل تؤام ورخال وهو جمع قليل ، قيل : وفرادى جمع فرد بفتح الراء .

وقيل : بسكونها ، قال الشاعر :

يرى النعرات الزرق تحت لبانه *** فرادى ومثنى أصعقتها صواهله

وقيل : جمع فريد كرديف وردافى ويقال رجل أفرد وامرأة فردى إذا لم يكن لها أخ وفرد الرجل يفرد فروداً إذا انفرد فهو فارد .

خوله : أعطاه وملكه وأصله تمليك الخول كما تقول مولته ملكته المال .

البين : الفراق .

قيل : وينطلق على الوصل فيكون مشتركاً .

قال الشاعر :

فوالله لولا البين لم يكن الهوى *** ولولا الهوى ما حن للبين آلفه

{ ولقد جئتموننا فرادى كما خلقناكم أول مرة } قال عكرمة قال النضر بن الحارث : سوف تشفع في اللات والعزى فنزلت : ولما قال { اليوم تجزون عذاب الهون } وقفهم على أنهم يقدمون يوم القيامة منفردين لا ناظر لهم محتاجين إليه بعد أن كانوا ذوي خول وشفعاء في الدنيا ويظهر أن هذا الكلام هو من خطاب الملائكة الموكلين بعقابهم ، وقيل : هو كلام الله لهم وهذا مبني على أن الله تعالى يكلم الكفار ، وهو ظاهر من قوله :

{ فلنسألن الذين أرسل إليهم } ومن قوله : { لنسألنهم أجمعين } و { جئتمونا } من الماضي الذي أريد به المستقبل ، وقيل : هو ماض على حقيقته محكي فيقال لهم : حالة الوقوف بين يدي الله للجزاء والحساب ، قال ابن عباس : { فرادى } من الأهل والمال والولد ، وقال الحسن : كل واحد على حدته بلا أعوان ولا شفعاء ، وقال مقاتل : ليس معكم شيء من الدنيا تفتخرون به ، وقال الزّجاج : كل واحد مفرد عن شريكه وشفيعه ، وقال ابن كيسان : { فرادى } من المعبود ، وقيل : أعدناكم بلا معين ولا ناصر وهذه الأقوال متقاربة لما كانوا في الدنيا جهدوا في تحصيل الجاه والمال والشفعاء جاؤوا في الآخرة منفردين عن كل ما حصلوه في الدنيا ، وقرىء فراد غير مصروف ، وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة فراداً بالتنوين وأبو عمرو ونافع في حكاية خارجة عنهما فردى مثل سكرى كقوله : { وترى الناس سكارى } وأنث على معنى الجماعة والكاف في كما في موضع نصب ، قيل : بدل من فرادى ، وقيل : نعت لمصدر محذوف أي مجيئا { كما خلقناكم } يريد كمجيئكم يوم خلقناكم وهو شبيه بالانفراد الأول وقت الخلقة فهو تقييد لحالة الانفراد تشبيه بحالة الخلق لأن الإنسان يخلق أقشر لا مال له ولا ولد ولا حشم ، وقيل : عراة غرلاً ومن قال : على الهيئة التي ولدت عليها في الانفراد يشمل هذين القولين وانتصب أول مرة على الظرف أي أول زمان ولا يتقدر أول خلق الله لأن أول خلق يستدعي خلقاً ثانياً ولا يخلق ثانياً إنما ذلك إعادة لا خلق .

{ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } أي ما تفضلنا به عليكم في الدنيا لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيراً ولا قدمتموه لأنفسكم وأشار بقوله : { وراء ظهوركم } إلى الدنيا لأنهم يتركون ما خولوه موجوداً .

{ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } وقفهم على الخطأ في عبادتهم الأصنام وتعظيمها وقال مقاتل : كانوا يعتقدون شفاعة الملائكة ويقولون : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } و { فيكم } متعلق بشركاء والمعنى في استعبادكم لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها فقد جعلوا لله شركاء فيهم وفي استعبادهم ، وقيل : جعلوهم شركاء لله باعتبار أنهم يشفعون فيهم عنده فهم شركاء بهذا الاعتبار ويمكن أن يكون المعنى شركاء لله في تخليصكم من العذاب أن عبادتهم تنفعكم كما تنفعكم عبادته ، وقيل : { فيكم } بمعنى عندكم ، وقال ابن قتيبة إنهم لي في خلقكم شركاء ، وقيل : متحملون عنكم نصيباً من العذاب .

{ لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } قرأ جمهور السبعة { بينكم } بالرفع على أنه اتسع في الظرف وأسند الفعل إليه فصار اسماً كما استعملوه اسماً في قوله : { ومن بيننا وبينك حجاب } وكما حكى سيبويه هو أحمر بين العينين ورجحه الفارسي أو على أنه أريد بالبين الوصل أي لقد تقطع وصلكم قاله أبو الفتح والزهراوي والمهدوي وقطع فيه ابن عطية وزعم أنه لم يسمع من العرب البين بمعنى الوصل وإنما انتزع ذلك من هذه الآية أو على أنه أريد بالبين الافتراق وذلك مجاز عن الأمر البعيد ، والمعنى : لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك بالبين ، وقرأ نافع والكسائي وحفص { بينكم } بفتح النون وخرجه الأخفش على أنه فاعل ولكنه مبني على الفتح حملاً على أكثر أحوال هذا الظرف وقد يقال لإضافته إلى مبني كقوله :

{ ومنادون ذلك } وخرجه غيره على أن منصوب على الظرف وفاعل { تقطع } التقطع ، قال الزمخشري : وقع التقطع بينكم كما تقول : جمع بين الشيئين تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل انتهى .

وظاهره ليس بجيد وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه لأنه إن أسنده إلى صريح المصدر ، فهو محذوف فلا يجوز حذف الفاعل وهو مع هذا التقدير فليس بصحيح لأن شرط الإسناد مفقود فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ، ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام ، وقيل : الفاعل مضمر يعود على الاتصال الدال عليه قوله : { شركاء } ولا يقدر الفاعل صريح المصدر كما قاله ابن عطية قال : ويكون الفعل مستنداً إلى شيء محذوف تقديره : لقد تقطع الاتصال والارتباط بينكم أو نحو هذا وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس مجاهد والسدّي وغيرهما انتهى ، وقوله إلى شيء محذوف ليس بصحيح لأن الفاعل لا يحذف ، وأجاز أبو البقاء أن يكون بينكم صفة لفاعل محذوف أي لقد تقطع شيء بينكم أو وصل وليس بصحيح أيضاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن المسألة من باب الإعمال تسلط على { ما كنتم تزعمون } تقطع وضل فأعمل الثاني وهو ضل وأضمر في { تقطع } ضمير ما وهم الأصنام فالمعنى { لقد تقطع بينكم } { ما كنتم تزعمون } وضلوا عنكم كما قال تعالى : { وتقطعت بكم الأسباب } أي لم يبق اتصال بينكم وبين { ما كنتم تزعمون } أنهم شركاء فعبدتموهم وهذا إعراب سهل لم يتنبه له أحد ، وقرأ عبد الله ومجاهد والأعمش { ما بينكم } والمعنى تلف وذهب ما { بينكم } وبين { ما كنتم تزعمون } ومفعولاً { تزعمون } محذوفان التقدير تزعمونهم شفعاء حذفاً للدلالة عليهما كما قال الشاعر :

ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب *** أي وتحسبه عاراً ، ولأبي عبد الله الرازي في هذه الآية كلام يشبه آراء الفلاسفة قال في آخره وإليه الإشارة بقوله تعالى : { لقد تقطع بينكم } والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد انقطعت ولا سبيل إلى تحصيلها مرة أخرى انتهى .

وليس هذا مفهوماً من الآية .