البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (4)

الجسم والخشب معرفان .

أسندت ظهري إلى الحائط : أملته وأضفته إليه ، وتساند القوم : اصطفوا وتقابلوا للقتال .

{ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو للسامع : أي لحسنها ونضارتها وجهارة أصواتهم ، فكان منظرهم يروق ، ومنطقهم يحلو .

وقرأ الجمهور : { تسمع } بتاء الخطاب ؛ وعكرمة وعطية العوفي : يسمع بالياء مبنياً للمفعول ، و { لقولهم } : الجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وليست اللام زائدة ، بل ضمن يسمع معنى يصغ ويمل ، تعدى باللام وليست زائدة ، فيكون قولهم هو المسموع .

وشبهوا بالخشب لعزوب أفهامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان ، ولم يكن حتى جعلها مسندة إلى الحائط ، لا انتفاع بها لأنها إذا كانت في سقف أو مكان ينتفع بها ، وأما إذا كانت غير منتفع بها فإنها تكون مهملة مسندة إلى الحيطان أو ملقاة على الأرض قد صففت ، أو شهوة بالخشب التي هي الأصنام وقد أسندت إلى الحيطان ، والجملة التشبيهية مستأنفة ، أو على إضمارهم .

وقرأ الجمهور : { خشب } بضم الخاء والشين ؛ والبراء بن عازب والنحويان وابن كثير : بإسكان الشين ، تخفيف خشب المضموم .

وقيل : جمع خشباء ، كحمر جمع حمراء ، وهي الخشبة التي نخر جوفها ، شبهوا بها في فساد بواطنهم .

وقرأ ابن المسيب وابن جبير : خشب بفتحتين ، اسم جنس ، الواحد خشبة ، وأنث وصفه كقوله : { أعجاز نخل خاوية } أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام .

وذكر ممن كان ذا بهاء وفصاحة عبد الله بن أبيّ ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير .

قال الشاعر في مثل هؤلاء :

لا تخدعنك اللحى ولا الصور *** تسعة أعشار من ترى بقر

تراهم كالسحاب منتشرا *** وليس فيها لطالب مطر

في شجر السرو منهم شبه *** له رواء وما له ثمر

وقيل : الجملة التشبيهية وصف لهم بالجبن والخور ، ويدل عليه : { يحسبون كل صيحة عليهم } في موضع المفعول الثاني ليحسبون ، أي واقعة عليهم ، وذلك لجبنهم وما في قلوبهم من الرعب .

قال مقاتل : كانوا متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحاً بأي وجه كان ، أو أخبروا بنزول وحي ، طارت عقولهم حتى يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم ، وكانوا يخافون أن ينزل الله تعالى فيهم ما تباح به دماؤهم وأموالهم ، ونحو هذا قول الشاعر :

يروعه السرار بكل أرض *** مخافة أن يكون به السرار

وقال جرير :

ما زلت تحسب كل شيء بعدهم *** خيلاً تكر عليهم ورجالا

أنشده ابن عطية لجرير ، ونسب هذا البيت الزمخشري للأخطل .

قال : ويجوز أن يكون { هم العدو } المفعول الثاني كما لو طرحت الضمير .

فإن قلت : فحقه أن يقول : هي العدو .

قلت : منظور فيه إلى الخبر ، كما ذكر في هذا ربي ، وأن يقدر مضاف محذوف على يحسبون كل أهل صيحة . انتهى .

وتخريج { هم العدو } على أنه مفعول ثان ليحسبون تخريج متكلف بعيد عن الفصاحة ، بل المتبادر إلى الذهن السليم أن يكون { هم العدو } إخباراً منه تعالى بأنهم ، وإن أظهروا الإسلام وأتباعهم ، هم المبالغون في عداوتك ؛ ولذلك جاء بعده أمره تعالى إياه بحذرهم فقال : { فاحذرهم } ، فالأمر بالحذر متسبب عن إخباره بأنهم هم العدو .

و { قاتلهم الله } : دعاء يتضمن إبعادهم ، وأن يدعو عليهم المؤمنون بذلك .

{ أنى يؤفكون } : أي كيف يصرفون عن الحق ، وفيه تعجب من ضلالهم وجهلهم .

ولما أخبره تعالى بعداوتهم ، أمره بحذرهم ، فلا يثق بإظهار مودتهم ، ولا بلين كلامهم .

و { قاتلهم الله } : كلمة ذم وتوبيخ ، وقالت العرب : قاتله الله ما أشعره .

يضعونه موضع التعجب ، ومن قاتله الله فهو مغلوب ، لأنه تعالى هو القاهر لكل معاند .

وكيف استفهام ، أي كيف يصرفون عن الحق ولا يرون رشد أنفسهم ؟ قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون أنى ظرفاً لقاتلهم ، كأنه قال : قاتلهم الله كيف انصرفوا أو صرفوا ، فلا يكون في هذا القول استفهام على هذا . انتهى .

ولا يصح أن يكون أنى لمجرد الظرف ، بل لا بد يكون ظرفاً استفهاماً ، إما بمعنى أين ، أو بمعنى متى ، أو بمعنى كيف ، أو شرطاً بمعنى أين .

وعلى هذه التقادير لا يعمل فيها ما قبلها ، ولا تتجرد لمطلق الظرفية بحال من غير اعتبار ما ذكرناه ، فالقول بذلك باطل .