البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَوۡ كَانَ عَرَضٗا قَرِيبٗا وَسَفَرٗا قَاصِدٗا لَّٱتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنۢ بَعُدَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلشُّقَّةُۚ وَسَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسۡتَطَعۡنَا لَخَرَجۡنَا مَعَكُمۡ يُهۡلِكُونَ أَنفُسَهُمۡ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (42)

{ وكان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون } : أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سهل المنال ، وسفراً قاصداً وسطاً مقارباً .

وهذه الآية في قصة تبوك حين استنفر المؤمنين فنفروا ، واعتذر منهم فريق لأصحابه ، لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة .

وليس قوله : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم } خطاباً للمنافقين خاصة ، بل هو عام .

واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة ، فابتدأ تعالى بذكر المنافقين وكشف ضمائرهم .

لاتبعوك : لبادروا إليه ، لا لوجه الله ، ولا لظهور كلمته ، ولكن بعدت عليهم الشقة أي : المسافة الطويلة في غزو الرّوم .

والشّقة بالضم من الثياب ، والشقة أيضاً السفر البعيد ، وربما قالوه بالكسر قاله : الجوهري .

وقال الزجاج : الشقة الغاية التي تقصد .

وقال ابن عيسى : الشقة القطعة من الأرض يشق ركوبها .

وقال ابن فارس : الشقة المسير إلى أرض بعيدة ، واشتقاقها منه الشق ، أو من المشقة .

وقرأ عيسى بن عمر : بعدت عليهم الشِّقِة بكسر العين والشين ، وافقه الأعرج في بعدت .

وقال أبو حاتم : إنها لغة بني تميم في اللفظين انتهى .

وحكى الكسائي : شقة وشقة .

وسيحلفون : أي المنافقون ، وهذا إخبار بغيب .

قال الزمخشري في قوله : وسيحلفون بالله ، ما نصه بالله متعلق بسيحلفون ، أو هو من كلامهم .

والقول مراد في الوجهين أي : سيحلفون متخلصين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين ، يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ، أو وسيحلفون بالله يقولون لو استطعنا .

وقوله : لخرجنا سدَّ مسدَّ جواب القسم .

ولو جميعاً والإخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم ، وقد كان من جملة المعجزات .

ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة ، واستطاعة الأبدان ، كأنهم تمارضوا انتهى .

وما ذهب إليه من أنّ قوله : لخرجنا ، سدَّ مسدَّ جواب القسم .

ولو جميعاً ليس بجيد ، بل للنحويين في هذا مذهبان : أحدهما : إن لخرجنا هو جواب القسم ، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم على الشرط ، وهذا اختيار أبي الحسن بن عصفور .

والآخران لخرجنا هو جواب لو ، وجواب القسم هو لو وجوابها ، وهذا اختيار ابن مالك .

إنْ لخرجنا يسد مسدهما ، فلا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك .

ويحتمل أن يتأوّل كلامه على أنه لما حذف جواب لو ، ودل عليه جواب القسم جعل ، كأنه سدَّ مسدَّ جواب القسم وجواب لو جميعاً .

وقرأ الأعمش وزيد بن علي : لوُ استطعنا بضم الواو ، وفرّ من ثقل الكسرة على الواو وشبهها بواو الجمع عند تحريكها لالتقاء الساكنين .

وقرأ الحسن : بفتحها كما جاء : { اشتروا الضلالة } بالأوجه الثلاثة يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب ، أي : يوقعونها في الهلاك به .

والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه تعالى .

وقال الزمخشري : يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلاً من سيحلفون ، أو حالاً بمعنى مهلكين .

والمعنى : أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب ، وما يخلفون عليه من التخلف .

ويحتمل أن يكون حالاً من قوله : لخرجنا أي ، لخرجنا معكم وإنْ أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما يحملها من المسير في تلك الشقة ، وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم .

ألا ترى أنه لو قيل : سيلحفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً ؟ يقال : حلف بالله ليفعلن ولأفعلن ، فالغيبة على حكم الإخبار ، والتكلم على الحكام انتهى .

أما كون يهلكون بدلاً من سيحلفون فبعيد ، لأن الإهلاك ليس مرادفاً للحلف ، ولا هو نوع من الحلف ، ولا يجوز أنْ يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه .

وأما كونه حالاً من قوله : لخرجنا ، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز ، لأن قوله لخرجنا فيه ضمير التكلم ، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم .

فلو كان حالاً من ضمير لخرجنا لكان التركيب : نهلكُ أنفسنا أي : مهلكي أنفسنا .

وأما قياسه ذلك على حلف بالله ليفعلنَّ ولأفعلنَّ فليس بصحيح ، لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منهم إلى ضمير المتكلم ، لو قلت : حلف زيد ليفعلن وأنا قائم ، على أن يكون وأنا قائم حالاً من ضمير ليفعلن لم يجز ، وكذا عكسه نحو : حلف زيد لأفعلن يقوم ، تريد قائماً لم يجز .

وأما قوله : وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فهي مغالطة ليس مخبراً عنهم بقوله : لو استطعنا لخرجنا معكم ، بل هو حاك لفظ قولهم .

ثم قال : ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً إلى آخره كلام صحيح ، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم ، بل حكاية .

والحال من جملة كلامهم المحكي ، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل .

لو قلت : قال زيد : خرجت يضرب خالداً ، تريد اضرب خالداً ، لم يجز .

ولو قلت : قالت هند : خرج زيد أضرب خالداً ، تريد خرج زيد ضارباً خالداً ، لم يجز .