التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم

مدنية وآياتها 12 نزلت بعد الحجرات

{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } في سبب نزولها روايتان أحدهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يوما إلى بيت زوجه حفصة بنت عمر بن الخطاب فوجدها قد مرت لزيارة أبيها فبعث إلى جاريته مارية فجامعها في البيت فجاءت حفصة فقالت يا رسول الله ما كان في نسائك أهون عليك مني أتفعل هذا في بيتي وعلى فراشي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مترضيا لها أيرضيك أن أحرمها قالت : نعم ، فقال : إني قد حرمتها ، والرواية الأخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا : فاتفقت عائشة وحفصة وسودة بنت زمعة على أن تقول له من دنا منها أكلت مغافير والمغافير صمغ العرفط وهو حلو كريه الريح ففعلن ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ولكني شربت عسلا ، فقلن له جرست نحلة العرفط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أشربه أبدا وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة فدخل بعد ذلك على زينب فقالت ألا أسقيك من ذلك : فقال لا حاجة لي به ، فنزلت الآية عتابا له على أن يضيق على نفسه بتحريم الجارية أو تحريم العسل ، والرواية الأولى أشهر وعليها تكلم الناس في فقه السورة ، وقد خرج الرواية الثانية البخاري وغيره .

ولنتكلم على فقه التحريم ، فأما تحريم الطعام والمال وسائر الأشياء ما عدا النساء ، فلا يلزم ولا شيء عليه عند مالك ، وأوجب عليه أبو حنيفة الكفارة ، وأما تحريم الأمة فإن نوى به العتق لزم وإن لم ينو به ذلك لم يلزم وكان حكمه ما ذكرنا في الطعام ، وأما تحريم الزوجة فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة .

فقال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم : إنما يلزم فيه كفارة يمين وقال مالك : في المشهور عنه ثلاث تطليقات في المدخول بها وينوي في غير المدخول بها فيحكم بما نوى من طلقه أو اثنتين أو ثلاث ، وقال ابن الماجشون : هي ثلاث في الوجهين وروي : عن مالك أنها طلقة بائنة ، وقيل : طلقة رجعية .

{ تبتغي مرضات أزواجك } أي : تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحل الله لك يعني : تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة ، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإنما تركه لرائحته .

{ والله غفور رحيم } في هذا إشارة إلى أن الله غفر له ما عاتبه عليه من التحريم على أن عتابه في ذلك إنما كان كرامة له وإنما وقع العتاب على تضييقه عليه السلام على نفسه وامتناعه مما كان له فيه أرب وبئس ما قال الزمخشري في أن هذا كان منه زلة لأنه حرم ما أحل الله وذلك قلة أدب على منصب النبوة .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مدنية ، وهي اثنتا عشرة آية . وهي مبدوءة بالعتاب من الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حرّمه على نفسه من الحلال استرضاء لبعض زوجاته . وما ينبغي أن يحرّم النبي على نفسه الحلال ليرضين عنه .

ويأمر الله عباده المؤمنين أن يصونوا أنفسهم ومن يلون من الأهلين من العذاب الحارق في نار متسعرة متأججة وقودها الناس والحجارة فيتقون ربهم ويأتمرون بأوامره ويفعلون الخير لعلهم ينجون .

ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكافرين والمنافقين . فيجاهد الأولين الظالمين بالقتال ، ويجاهد الآخرين المخادعين بالحجة والمجادلة والبرهان . ثم يضرب الله لعباده مثلين من النساء . فمثل من النساء الكوافر ، زوجات لمؤمنين ، ومثل من النساء المؤمنات ، زوجات لكافرين .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ ياأيها النبي لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم 1 قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم 2 وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير 3 إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير 4 عسى ربه إن طلّقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا } .

في سبب نزول هذه الآيات روى ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده ، مارية القبطية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها . فقالت : لم تدخلها بيتي ، ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك . فقال لها : " لا تذكري هذا لعائشة ، وهي عليّ حرام إن قربتها " . قالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك . فحلف لها لا يقربها وقال لها لا تذكريه لأحد . فذكرته لعائشة . فأبى أن يدخل على نسائه شهرا واعتزلهن تسعا وعشرين ليلة . فأنزل الله تبارك وتعالى : { لم تحرّم ما أحل الله لك } الآية{[4573]} .

وروى مسلم عن عائشة ( رضي الله عنها ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا . قالت : فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير . أكلت مغافير{[4574]} ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك . فقال : " بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له " فنزل { لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك } يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم معاتبا : لم تحرم على نفسك الحلال الذي أحله الله لك ، تلتمس بتحريمك ذلك مرضاة زوجاتك { والله غفور رحيم } الله يغفر الذنوب لعباده المؤمنين ، وقد غفر لك هذه الزلة وهي تحريمك على نفسك ما أحله الله لك . والله جل وعلا رحيم بعباده أن يعاقبهم بعد أن يتوبوا .


[4573]:أسباب النزول للنيسابوري ص 291.
[4574]:المغافير: جمع مغفار، وهو صمغ حلو يسيل من شجر العرفط يؤكل. انظر المعجم الوسيط جـ 2 ص 656.