تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۖ لَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (9)

وقوله : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } قال ابن عباس وغيره : مستكبرًا عن الحق إذا دعي إليه . وقال مجاهد ، وقتادة ، ومالك عن زيد بن أسلم : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } أي : لاوي عنقه ، وهي رقبته ، يعني : يعرض عما يدعى إليه من الحق رقَبَته استكبارًا ، كقوله تعالى : { وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 38 ، 39 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } [ النساء : 61 ] ، وقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } [ المنافقون : 5 ] : وقال لقمان لابنه : { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } [ لقمان : 18 ] أي : تميله عنهم استكبارًا عليهم ، وقال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ لقمان : 7 ] .

وقوله : { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } : قال بعضهم : هذه لام العاقبة ؛ لأنه قد لا يقصد ذلك ، ويحتمل أن تكون لام التعليل . ثم إما أن يكون المراد بها المعاندين{[20041]} ، أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الذي يجعله ممن يضل عن سبيل الله .

ثم قال تعالى : { لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } وهو الإهانة والذل ، كما أنه لما استكبر عن آيات الله لَقَّاه الله المذلة في الدنيا ، وعاقبه فيها قبل الآخرة ؛ لأنها أكبر هَمّه ومبلغ علمه ، { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } .


[20041]:- في ت ، ف : "المعاندون".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۖ لَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (9)

الثّنْيُ : لَيُّ الشيء . يقال : ثنى عنان فرسه ، إذا لواه ليدير رأس فرسه إلى الجهة التي يريد أن يوجهه إليها . ويطلق أيضاً الثّني على الإمالة .

والعِطف : المنكب والجانب . و { ثاني عطفه } تمثيل للتكبر والخيلاء . ويقال : لوى جيدَه ، إذا أعرض تكبراً . وهذه الصفة تنطبق على حالة أبي جهل فلذلك قيل إنه المراد هنا .

واللام في قوله { ليُضل } لتعليل المجادلة ، فهو متعلّق ب { يجادل } أي غرضه من المجادلة الإضلال .

وسبيل الله : الدّين الحق .

وقوله { ليُضل } بضم الياء أي ليُضلل الناسَ بجداله . فهذا المجادل يريد بجدله أن يوهم العامة بطلان الإسلام كيلا يتبعوه .

وإفراد الضمير في قوله { عطفه } وما ذكر بعده مراعاةٌ للفظ ( مَن ) وإنْ كان معنى تلك الضمائر الجمع .

وخزي الدنيا : الإهانة ، وهو ما أصابهم من القتل يوم بَدر ومن القتل والأسر بعد ذلك . وهؤلاء هم الذين لم يسلموا بعدُ . وينطبق الخزي على ما حصل لأبي جهل يوم بدر من قتله بيد غلامين من شباب الأنصار وهما ابنا عفراء . وباعتلاء عبد الله بن مسعود على صدره وذبحه وكان في عظمته لا يخطر أمثال هؤلاء الثلاثة بخاطره .

وينطبق الخزيُ أيضاً على ما حلّ بالنضر بن الحارث من الأسر يوم بدر وقتله صبراً في موضع يقال له : الأثَيْل قرب المدينة عقب وقعة بدر كما وصفته أخته قتيلة في رثائه من قصيدة :

صبْراً يقاد إلى المنية متعَبا *** صبرَ المقيّد وهو عَاننٍ مُوثق

وإذ كانت هذه الآية ونظيرتها التي سبقت مما نزل بمكة لا محالة كان قوله تعالى : { له في الدنيا خزي } من الإخبار بالغيب وهو من معجزات القرآن .

وإذاقة العذاب تخييل للمكنيّة .